الصبر في حياه
سيدنا محمد صل الله عليه وسلم
ان الحديث عن
صبره عليه الصلاة والسلام ،
هو في حقيقة الأمر حديث عن حياته كلها ،
وعن سيرته
بجميع تفاصيلها وأحداثها ،
فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صبر ومصابرة ،
وجهاد
ومجاهدة ، ولم يزل عليه الصلاة والسلام في جهد دؤوب ،
وعمل متواصل ، وصبرٍ لا ينقطع
منذ أن نزلت عليه أول آية ،
وحتى آخر لحظة في حياته .
لقد عرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة ما سيلقاه في هذا الطريق ،
منذ اللحظة الأولى
لبعثته ، وبعد أول لقاء بالملك ،
حين ذهبت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل
فقال له ورقة : يا ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك ،
فقال له عليه الصلاة والسلام :
( أو مخرجي هم ؟ )
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي .
فوطن
نفسه منذ البداية على تحمل الصد والإيذاء والكيد والعداوة .
ومن المواقف
التي يتجلّى فيها صبره عليه الصلاة والسلام ،
ما تعرض له من أذى جسدي من قومه وأهله
وعشيرته وهو بمكة يبلغ رسالة ربه ،
ومن ذلك ما جاء عند البخاري أن عروة بن الزبير
سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد شيء
صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم
فقال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة ،
إذ أقبل عقبة بن أبي
معيط ،
فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ،
فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ،
ودفعه
عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ .
وفي يوم من الأيام كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند البيت ،
وأبو
جهل وأصحابٌ له جلوس ، فقال بعضهم لبعض:
أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على
ظهر محمد إذا سجد ،
فانبعث أشقى القوم فجاء به ،
فانتظر حتى سجد النبي صلى الله
عليه وسلم فوضعه على ظهره بين كتفيه ،
فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض ،
ورسول
الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه ،
حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره الأذى
وأشد من ذلك ،
الأذى النفسي المتمثّل في ردّ دعوته وتكذيبه ،
واتهامه بأنه كاهن وشاعر ومجنون وساحر ،
وادعاء أن ما أتى به من آيات ما هي إلا
أساطير الأولين ،
ومن ذلك ما قاله أبوجهل مستهزئا :
اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت :
وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم
وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم
يصدون عن المسجد الحرام }
( الأنفال : 33 – 34 ) ،
وروى البخاري في صحيحه أن امرأة
من المشركين جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له :
يا محمد إني لأرجو أن
يكون شيطانك قد تركك ؛
لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا .
فأنزل الله عز وجل :
والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى }
( الضحى : 1 – 3 )
وكان أبو لهب
يتْبَع النبي صلى الله عليه وسلم في مجامع الناس وأسواقهم ، ويكذّبه ،
بينما كانت
امرأته أم جميل تجمع الحطب والشوك وتلقيه في طريقه .
وقد حدَّث
صلى الله عليه وسلم عن موقف من مواقف الأسى والكرب ،
حين يبلغ بالإنسان الحد أن
ينسى نفسه وهو في غيبوبة الهم والحزن ،
وذلك بعد أن ضاقت عليه مكة فخرج إلى الطائف
يطلب النصرة ،
فقد روى البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها
سألت النبي صلى الله
عليه وسلم يوماً فقالت :
هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟
قال : ( لقد لقيت من
قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ،
إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل
ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ،
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ،
فلم أستفق إلا
وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ،
فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها
جبريل ، فناداني فقال :
إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ،
وقد بعث إليك
ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ،
فناداني ملك الجبال فسلم علي ، ثم قال :
يا محمد
فقال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
بل أرجو
أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا )
ويبلغ الأذى قمته فيُحاصر صلى الله عليه وسلم
ثلاث سنوات في شعب
أبي طالب ،
وتهجم عليه الأحزان المتوالية ،
فيفقد زوجته خديجة التي كانت خير ناصر
ومعين بعد الله عز وجل ،
ثم يفاجأ بموت عمه الذي كان يحوطه ويدافع عنه ،
ويضاعف
حزنه أنه مات على الكفر ،
ثم يخرج من بلده مهاجراً بعد عدة محاولات لقتله واغتياله
وفي المدينة يبدأ عهداً جديدا ًمن الصبر والتضحية ،
وحياة فيها الكثير من الجهد
والشدة ،
حتى جاع وافتقر ، وربط على بطنه الحجر ،
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( قد أُخفت في الله وما يخاف أحد ،
ولقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ،
ولقد أتت
عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة
ومالي ول بلال طعامٌ يأكله ذو كبد ،
إلا شيء يواريه إبط بلال )
رواه الترمذي .
وما بدر وأحد والأحزاب وتبوك وحنين
وغيرها من غزواته وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية ،
إلا صفحات مضيئة من صبره
وجهاده صلى الله عليه وسلم ،
ولم يكن يخرج من غزوة إلا ويدخل في أخرى ،
حتى شُجَّ
وجهه الشريف ،
وكسرت رباعيته ، واتهم في عرضه ،
ولحقه الأذى من المنافقين وجهلة
الأعراب ،
بل روى البخاري عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه أنه قال :
قسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم قسمة ، فقال رجل من الأنصار :
والله ما أراد محمد بهذا وجه
الله ، قال ابن مسعود :
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ،
فتمعر وجهه
وقال : ( رحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) .
ومن
المواطن التي صبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ،
أيّام موت أولاده وبناته ، حيث
كان له من الذرية سبعةٌ ،
توالى موتهم واحداً تلو الآخر حتى لم يبق
منهم إلا فاطمة
رضي الله عنها ،
فما وهن ولا لان ، ولكن صبر صبراً جميلاً ،
حتى أُثر عنه يوم موت
ولده إبراهيم قوله:
( إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا
وانا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) .
ولم يكن صبر النبي صلى الله
عليه وسلم مقتصراً على الأذى والابتلاء
بل شمل صبره على طاعة الله سبحانه وتعالى
حيث أمره ربّه بذلك في قوله :
{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }
( الأحقاف [size=24]35 ): [/size]
وقوله :
{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها }
( طه : 132 ) ،
فكان يجتهد في
العبادة والطاعة حتى تتفطّر قدماه من طول القيام ،
ويكثر من الصيام والذكر وغيرها
من العبادات ، وإذا وكان شعاره في ذلك :
أفلا أكون عبدا شكورا
لقد كانت وقائع سيرته صلى الله عليه وسلم مدرسة للصابرين ،
يستلهمون منها حلاوة الصبر ، وبرد اليقين ،
ولذة الابتلاء في سبيل الله تعالى