غزوة بني قَينُقاع
هذا، وإذا كان للشخص عدوَّان فانتصر على أحدهما حَرَّك ذلك شجو الآخر، وهاج فؤاده، فتبدو بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه، وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر، فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه، وأظهروا مكنون ضمائرهم، فبدت البغضاء من أفواههم، وانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وهذا ما يدعو المسلمين للتحرّز منهم وعدم ائتمانهم في المستقبل إذا شبّت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم،
فأنزل الله :
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْإِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)
فدعا عليه الصلاة والسلام رؤساءهم وحذّرهم عاقبة البغي ونكث العهد، فقالوا: يا محمد لا يغرنّك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لَتعلمَن أنّا نحن الناس، وكانوا أشجع يهود
فأنزل الله:
(قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)
قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ
مَن يَشَآء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الاْبْصَارِ)
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم، سار إليهم عليه الصلاة والسلام في نصف شوال من هذه السنة، يحمل لواءه عمه حمزة، وخلَّف على المدينة أبا لبابة الأنصاري، فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
جلاء بني قينقاع
ولما رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين، وأدركهم الرعب، سألوا رسول الله r أن يخلي سبيلهم، فيخرجوا من المدينة ولهم النساء والذريّة، وللمسلمين الأموال. فقَبِل ذلك عليه الصلاة والسلام، ووكَّل بجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاث ليالٍ، فذهبوا إلى أَذْرعات، ولم يحل عليهم الحَوْل حتى هلكوا، وخمَّس عليه الصلاة والسلام أموالهم، وأعطى سهم ذوي القربى لبني هاشم ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل، ولما سُئِل عن ذلك قال:
«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام هكذا»،
وشبك بين أصابعه.
غزوة السَّويق
كان أبو سفيان متهيجاً، لأنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف ألاّ يمسّ رأسه الماء حتى يغزو محمداً، وليبرّ بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة، ولما قارَبها، أراد أن يقابل اليهود من بني النضير ليهيجهم، ويستعين بهم على حرب المسلمين، فأتى سيدهم حُيَيَّ بن أَخْطَب فلم يرضَ مقابلته، فأتى سَلاّم بن مِشْكم فأذن له واجتمع به، ثم خرج من عنده، وأرسل رجالاً من قريش إلى المدينة، فحرَّقوا في بعض نخلها، ووجدوا أنصارياً فقتلوه، ولما علم بذلك رسول الله r، خرج في أثرهم في مائتين من أصحابه، لخمس خَلَون من ذي الحجة، بعد أن ولّى على المدينة بَشِير بن عبد المنذر، ولكن لم يلحقهم، لأنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على الإسراع، فألقوا ما معهم من جربِ السَّوِيق، فأخذه المسلمون، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السَّوِيق.
صلاة العيد
وفي هذا العام سنّ الله للعالم الإسلامي سنّة عظيمة، بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يجددوا عهود الإِخاء، ويقووا عُروة الدين الوثقى، وهي الاجتماع في يومي عيد الفطر وعيد الأضحى. وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد، ويصلي بهم ركعتين تضرعاً إلى الله أن لا يَفْصِم عروتهم، وأن ينصرهم على عدوهم،
ثم يخطبهم حاضَّاً لهم على الائتلاف،
ومذكراً لهم ما يجب عليهم لأنفسهم، ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضاً، وبعد ذلك يخرجون لأداء الصدقات للفقراء والمساكين، حتّى يكون السرور عامّاً لجميع المسلمين، فبعد الفطر زكاته، وبعد الأضحى تضحيته، نسأله تعالى أن يؤلّف بين قلوبنا، ويوفّقنا لأعمال سلفنا.
زواج علي بفاطمة عليهما السلام
في هذه السنة تزوج علي بن أبي طالب وعمره إحدى وعشرون سنة
بفاطمة بنت رسول الله وسنها خمس عشرة سنة،
وكان منها عقب رسول الله بنوه: الحسن والحسين وزينب.
وفيها دخل عليه الصلاة والسلام بعائشة بنت أبي بكر
وسِنُّها إذ ذاك تسع سنوات.
وفي هذا العام توفي عثمان بن مظعون لا كما ذكر سابقا أن توفي في العام الأول.
السَّنة الثّالِثَة سرية محمد بن مسلمة وقتل كعب بن الأشرف
ولما انتصر المسلمون ببدر ورأى الأسرى مقرَّنينَ في الحبال خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّضهُم على حرب المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقال محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي أتحِبُّ أن أقتله قال نعم قال: أنا لك به وائذنْ لي أقول شيئاً أتمكن به فأذن له ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى أتى كعباً فقال له إن هذا الرجل يريد رسول الله قد سألنا صدقة وإنه قد عَنَّانا وإني قد أتيتك أستسلفك قال وأيضاً والله لتملّنهُ قال إنا قد اتّبعناه فلا نحبُّ أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تُسْلِفنا وسْقاً أو وسقين قال نعم ولكن ارْهَنُوني قالوا أي شيء تُريد قال ارهنوني نساءكم قالوا كيف نَرْهَنُك نساءنا وأنت أجمل العرب قال فارهنوني أبناءكم قالوا كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدهم فيقال رُهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأْمَةَ يعني السلاح فرضي فواعده ليلاً أن يأتيه فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة أخو كعب من الرضاع وعبَّاد بن بِشر والحارث بن أوس وأبو عبس ابنُ جَبْر وكلهم أوسيّون فناداه محمد بن مسلمة فأراد أن ينزلَ فقالت له امرأته أين تخرج الساعة وإنك امرؤ مُحارب فقال: إنما هو ابن أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب ثم قال محمد لمن معه إذا جاءني فإني آخذ بشعره فأشَمُّهُ فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه
فاضربوه فنزل إليهم كعب متوشِّحاً سيفه وهو
يَنْفَحُ منه ريح المسك فقال محمد ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب أتأذن لي أن أَشمَّ رأسك قال نعم فشمَّه فلما استمكن منه قال دونكم فاقتلوه ففعلوا وأراح الله المسلمين من شر أعماله التي كان يقصدها بهم ثم أتوا النبي فأخبروه وكان قتل هذا الشقي في ربيع الأول من هذا العام وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى من رئيس غدراً ومقاصد سوء ومحبة لإثارة الحرب أرسل له من يُريحه من شرّه وقد فعل كذلك مع أبي عَفَك اليهودي وكان مثل كعب في الشر.
غزوة غَطَفَان
بلغ رسول الله أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه دُعْثُور يريدون الغارة على المدينة فأراد عليه الصلاة والسلام أن يَغُلَّ أيديهم كيلا يتمكنوا من هذا الاعتداء فخرج إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجلاً لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وخلف على المدينة عثمان بن عفان وحدث أنه عليه الصلاة والسلام نزع ثوبه يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون فأبصره دُعثور فأقبل إليه بسيفه حتى وقف على رأسه وقال مَنْ يمنعك مني يا محمد فقال الله فأدركت الرجل هيبةٌ ورعبٌ أسقطا السيف من يده فتناوله عليه الصلاة والسلام وقال لدعثور مَنْ يمنعك مني قال لا أحد فعفا عنه فأسلم الرجل ودعا قومه للإسلام وحوّل الله قلبه من عداوة رسول الله
وَجمْع الناس لحربه إلى محبته وجمع الناس له
(ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء)
وهذا ما ينتجه حسن المعاملة والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)
غزوة بُحْران
بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من بني سُليم يريدون الغارة على المدينة فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لِسِتَ خَلَون من جمادى الأولى وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم ولما وصل بُحران تفرقوا ولم يلق كيداً فرجع.
سرية زيد بن حارثة إلى القزدة
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أُغلق في وجه تجارتهم ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى فجاءت أخبارهم لرسول الله فأرسل لهم زيد بن حارثة في مائة راكب يترقبونهم وكان ذلك في جمادى الآخرة فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد فأخذت العِير وما فيها وهرب الرجال وقد خمَّس الرسول عليه الصلاة والسلام هذه حينما وصلت له.
غزوة أُحُد
ولما أصابَ قريشاً ما أصابها ببدر، وأُغْلِقت في وجوههم طرق التجارة، اجتمع مَنْ بقي من أشرافهم إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم المصائب، وكانت موقوفة بدار الندوة، ولم تكن سُلِّمت لأصحابها بعد، فقالوا: إن
محمداً قد وَتَرنا، وقتل خيارنا، وإنّا رضينا أن نتركَ ربح أموالنا فيها، استعداداً لحرب محمد وأصحابه، وقد رضي بذلك كلُّ من له فيها نصيب، وكانَ ربحها نحواً من خمسين ألف دينار، فجمعوا لذلك الرجال، فاجتمع من قريش ثلاثة آلاف رجل ومعهم الأحابيش وهم حلفاؤهم من بني المصْطَلق وبني الهون بن خزيمة، ومعهم أبو عامر الراهب الأوسي، وكان قد فارق المدينة كراهية لرسول الله r ومعه عدد ممّن هم على شاكلته، وخرج معهم جماعات من أعراب كِنانة وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عَزّةَ الشاعر الذي لا ينسى القارىء أن الرسول مَنَّ عليه ببدر وأطلقه من غير فداء : إنك رجل شاعر فأعِنّا بلسانك، فقال: إني عاهدت محمداً ألاّ أعِين عليه، وأخاف إن وقعتُ في يده مرة ثانية ألا أنجو، فلم يزل به صفوان حتى أطاعه، وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين، ودعا جُبير بن مُطْعِمٍ غلاماً حبشياً له، اسمه وَحشي، وكان رامياً قلّما يُخطىء، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمِّي طُعَيْمة فأنت حر. ثم خرج الجيش، ومعهم القِيانُ والدفوف والمعازف والخمور، واصطحب الأشرافُ منهم نساءهم كيلا ينهزموا، ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحُلَيفة.
أما رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباس بن عبد المطلب، الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب، محتجّاً بما أصابه يوم بدر. ولما وصلت الأخبار باقتراب المشركين،
جمع عليه الصلاة والسلام أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال:
«إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا
أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم»
فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والأنصار ورأى ذلك أيضاً عبد الله بن أُبيّ، أما الأحداث وخصوصاً مَنْ لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج، وكان مع رأيهم حمزة بن عبد المطلب، وما زال هؤلاء بالرسول حتى تبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عدداً والأقوون جلداً فصلى الجمعة بالناس في يومها لعشر خَلَون من شوال، وحضّهم في خطبتها على الثبات والصبر
وقال لهم:
«لكم النصر ما صبرتم»
ثم دخل حجرته، ولبس عدّته، فظاهر بين درعين، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره. ولما رأى ذوو الرأي من الأنصار أن الأحداث استكرهوا الرسول على الخروج لاموهم، وقالوا: ردّوا الأمر لرسول الله ، فما أمر ائتمرنا، فلما خرج عليه الصلاة والسلام،
قالوا: يا رسول الله نَتَّبعُ رأيك، فقال:
«ما كان لنبي لَبِسَ سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه»
ثم عقد الألوية فأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج للحُباب بن المنذر، ولواء الأوس لأُسيد بن الحضير، وخرج من
المدينة بألف رجل. فلما وصلوا رأس الثنية، نظر عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة كبيرة، فسأل عنها، فقيل: هؤلاء حلفاء عبد اللهبن أُبيّ من اليهود،
فقال: «إنّا لا نستعين بكافر على مشرك»
وأمر بردّهم لأنه لا يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطُولى في الخيانة. ثم استعرض الجيش فردَّ من استصغر، وكان فيمن ردّ: رافع بن خديج، وسَمُرَة بن جُندب، ثم أجاز رافعاً لما قيل له إنه رامٍ، فبكى سَمُرة، وقال لزوج أمه أجاز رسول الله رافعاً وردّني مع أني أصرعه فبلغ رسول الله الخبر فأمرهما بالمصارعة فكان الغالب سمرة، فأجازه. ثم بات عليه الصلاة والسلام محله ليلة السبت، واستعمل على حرس الجيش محمد بن مسلمة، وعلى حرسه الخاص ذكوان بن عبد قيس. وفي السَّحَر سار الجيش حتى إذا كان بالشَّوْطِ وهو بستان بين أُحُد والمدينة رجع عبد الله بن أُبَيَ بثلاثمائة من أصحابه وقال: عصاني وأطاع الوِلْدان فعلام نقتل أنفسنا؟
فتبعهم عبد الله بن عمرو والد جابر، وقال: يا قوم
أُذَكِّركُمُ الله ألا تخذلوا قومكم ونبيّكم،
{قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ)
فقال لهم: أَبْعَدَكُم الله، فسيغني الله عنكم نبيّه. ولما فعل ذلك عبد الله بن أُبَيّ، همَّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا: بنو حارثة من الأوس، وبنو سَلِمة من الخزرج، فعصمهما الله. وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين، فقوم يقولون: نقاتلهم، وقوم يقولون: نتركهم،
فأنزل الله:
(فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ
أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)
هذا، ولما قُتل حَمَلةُ اللواء من المشركين، ولم يقدر أحدٌ على الدنو منه
ولَّوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويُولولن،
وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم والأسلاب، فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمين فوق الجبل، قالوا: ما لنا في الوقوف من حاجة، ونسوا أمر السيد الحكيم ،
فذكرّهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون.
أما رئيسُهم فثبت وثبت معه قليل منهم،
فلما رأى خالدُ بن الوليد أحدُ رؤساء المشركين خُلُوَّ الجبل من الرماة، انطلق ببعض الجيش، فقتل من ثبت من الرماة، وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم، فلما رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم، وانتقضتْ صفوفهم،
واختلطوا من غير شعار، حتى صار يضرب بعضُهم بعضاً،
ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله،
وكان من المشركين رجل يقال له ابن قَمِئَةَ قتل مُصعَب بن عمير صاحب اللواء،
وأشاع أن محمداً قد قتل،
فدخل الفشلُ في المسلمين حتى قال بعضُهم:
علامَ نقاتل إذا كان محمد قد قُتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤَمِّنُوكم
وقال جماعة: إذا كان محمد قد قُتل فقاتلوا عن دينكم.
وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين،
من بينهم: الوليد بن عقبة، وخارجة بن زيد، ورِفاعة بن المعلى،
وعثمان بن عفان، وتوجهوا إلى المدينة،
ولكنهم استحيوا أن يدخلوها، فرجعوا بعد ثلاث.
وثبت رسول الله ، ومعه جماعة، منهم أبو طلحة الأنصاري استمر
بين يديه يمنع عنه بحَجَفَتِهِ، وكان رامياً شديد الرمي.
فنثر كِنانته بين يدي رسول الله ، وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء
ووجهي لوجهك الوقَاء.
وكل من كان يمر ومعه كنانة
يقول له عليه الصلاة والسلام:
«انثرها لأبي طلحة»،
وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة:
يا نبي الله بأبي أنت وأمي،
لا تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.
ومنهم سهل بن حُنَيف وكان من مشاهير الرماة
نضحَ عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس.
ومنهم أبو دُجانة سِمَاكُ بن خَرَشَة الأنصاري تترس على رسول الله ،
فصار النبلُ يقع على ظهره وهو منحنٍ حتى كثر فيه.
وكان يقاتل عن الرسول زياد بن عمارة حتى أصابت الجراحُ مقاتله،
فأمر به فأُدني منه ووسده قدمه حتى مات.
وقد أصابه عليه الصلاة والسلام شدائد عظيمة تحمَّلها بما أعطاه الله من الثبات،
فقد أقبل أُبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصلاة والسلام الحربة ممّن كانوا معه،
وقال: «خلّوا طريقه»،
فلمّا قَرُب منه ضربه ضربةً كانت سببَ هلاكه وهو راجع،
ولم يقتل رسول الله غيره لا في هذه الغزوة ولا في غيرها.
وكان أبو عامر الراهب قد حفر حُفراً وغطّاها ليقَع فيها المسلمون
فوقعَ الرسول في حفرة منها فأُغمي عليه وخُدشت ركبتاه،
فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله
وهما ممّن ثبت حتى استوى قائماً
فرماه عتبة بن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته
فتبعه حاطب بن أبي بلتعة فقتله
وشَجَّ وجهه عليه الصلاة والسلام عبد الله بن شهاب الزهري
وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة
ضربه بها ابن قَمِئَةَ غضب الله عليه،
فجاء أبو عبيدة وعالج لحلقتين حتى نزعهما،
فكُسرت في ذلك ثنيتاه،
وقال حينئذٍ عليه الصلاة والسلام:
كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيّهم
فأنزل الله:
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)
وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات،
لأن الشخص منهم كان يتلقى السهم، خوفاً أن يصل للرسول ،
فوجد بطلحة نيفٌ وسبعون جراحة، وشلَّت يده،
وأصاب كعب بن مالك سبع عشرة جراحة.
وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهم لهم،
يذكِّرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فأُصيبوا.
أولهما: طاعة الرسول في أمره،
فقد قال للرماة:
لا تبرحوا مكانكم إن نحن نُصرنا أو قُهرنا، فعصوا أمره ونزلوا.
والثاني:
أن تكون الأعمال كلها لله غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيراً ما تكون سبباً في مصائب عظيمة، وهؤلاء أرادوا عَرض الدنيا، والتهَوا بالغنائم حتى عُوقبوا،
وفي ذلك أنزل الله:
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا
وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
غزوة حمراء الأسد
لما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصبح حَذِراً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا انتصارهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو وألاّ يخرج إلا من كان معه بالأمس فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرح، فضمَّدوا جراحاتهم وخرجوا في السادس عشر من شوال واللواء معقود لم يُحَلَّ، فأعطاه علي بن أبي طالب، وولى على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء الأسد وقد كان ما ظنه الرسول حقاً، فإن المشركين تلاوموا على ترك المسلمين من غير شن الغارة على المدينة حتى يتم لهم النصر، فأصرّوا على الرجوع، ولكن لما بلغهم خروج الرسول r في أثرهم ظنوا أنه قد حضر معه مَنْ لم يحضر بالأمس، وألقى الله الرعب في قلوبهم، فتمادوا في سيرهم إلى مكة.
وظفر عليه الصلاة والسلام وهم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر، الذي مَنَّ عليه ببدر بعد أن تعهد ألاّ يكون على المسلمين،
فأمر بقتله، فقال: يا محمد أقلْني، وامنُن عليّ، ودعني لبناتي،
وأعطيك عهداً ألاّ أعود لمثل ما فعلت،
فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعتُ محمداً مرتين،
لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين، اضرب عنقه يا زبير»
فضرب عنقه.
وفي هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف،
فإن الرجل الذي لا يحترز مما أُصيب منه ليس بعاقل،
فلا بدّ من الحزم لإقامة دعائم المُلْك.
حوادث
وفي هذه السنة زوَّج عليه الصلاة والسلام بنته أُم كلثوم لعثمان بن عفان
بعد أن ماتت رقية عنده، ولذلك كان يُسَمَّى ذا النورين.
وفيها تزوَّج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب،
وأُمُّها أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خُنيس بن حذافة السهمي ،
فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر.
وفيها تزوج عليه الصلاة والسلام زينبَ بنت خزيمة الهلالية من بني هلال بن عامر، كانت تدعى في الجاهلية أُم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فقُتل عنها بأُحُد وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها. وفيها ولد الحسن بن علي
السَّنة الرَّابعة : سرية أبي سلمة إلى بني أسد في قطن
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طُليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلاة والسلام فدعا أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وعقد له لواءً وقال له سِرْ حتى تنزل أرض بني أسد بن خزيمة فَأَغِرْ عليهم وأرسل معه رجالاً، فسار في هلال المحرم حتى بلغ قَطَناً فأغار عليهم فهربوا من منازلهم ووجد أبو سلمة إبلاً وشاءً فأخذها ولم يلق حرباً ورجع بعد عشرة أيام من خروجه.
سرية عبد الله بن أنيس إلى عرنة
وفي بدئها أيضاً بلغه عليه الصلاة والسلام أن سفيان بن خالد بن نُبَيْح الهُذلي المقيم بعُرَنَة يجمع الجموعَ لحربه فأرسل له عبد الله بن أُنَيْس الجهني وحده ليقتله فاستأذن رسول الله r أن يَتَقَوَّلَ حتى يتمكن فأذن له وقال انتسب لخزاعة فخرج لخمس خَلَون من المحرم ولما وصل إليه قال له سفيان ممّن الرجل قال من خُزاعة، سمعتُ بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك فقال له أجل إني لفي الجمع له فمشى عبد الله معه وحدَّثه وسفيان يستحلي حديثه فلما انتهى إلى خِبائه تفرق الناس عنه فجلس معه عبد الله حتى نام فقام
وقتله ثم ارتحل حتى أتى المدينة ولم يلحقه الطلب.
سرية الرجيع
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام عشرة رجال عيوناً على قريش مع رهط عَضَل والقَارَةِ الذين جاؤوا رسول الله يطلبون من يفقِّههم في الدين وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فخرجوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالرَّجيع غدر بهم أولئك الرهط ودلُّوا عليهم هذيلاً قوم سفيان بن خالد
الهذلي الذي كان قتله عبد الله بن أنيس فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رامٍ واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم فلما أحسَّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك فقال لهم الأعداء انزلوا ولكم العهد ألاّ نقتلكم ولما رأى الثلاثة الذين سلَّموا عينَ الغدر امتنع أحدهم فقتلوه وأما الاثنان فباعوهما بمكة ممّن كان له ثأر عند المسلمين وهناك قُتِلا وقد قال أحدهما وهو خُبيب بن عدي حين أرادوا قتله وَلَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً على أَيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَاركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
سرية بئر معونة
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامر بن مالك مُلاعِبُ الأسنّة وهو من رؤوس بني عامر فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل
نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك،
فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين
من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن،
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة
فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه،
وكان فيما قال:
«إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا:
ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»،
وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد،
فحزن عليهم حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر،
حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح،
فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة،
فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر،
ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فبينما رسول الله وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر. إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر.فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولو:
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا هن الجلاء فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم فلما اجتمع الناس خرج بهم في شهر ربيع الأول واستعمل على ابن مكتوم وأعطى رايته عليا.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ومنهم أكابرهم حُيَيُّ بن أخطب وسلاّم بن أبي الحُقَيْق ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام وأسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب
غزوة ذات الرقاع
الهذلي الذي كان قتله عبد الله بن أنيس فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رامٍ واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم فلما أحسَّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك فقال لهم الأعداء انزلوا ولكم العهد ألاّ نقتلكم ولما رأى الثلاثة الذين سلَّموا عينَ الغدر امتنع أحدهم فقتلوه وأما الاثنان فباعوهما بمكة ممّن كان له ثأر عند المسلمين وهناك قُتِلا وقد قال أحدهما وهو خُبيب بن عدي حين أرادوا قتله وَلَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً على أَيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَاركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
سرية بئر معونة
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامر بن مالك مُلاعِبُ الأسنّة وهو من رؤوس بني عامر فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار فأرسل معه المنذر بن عمرو في سبعين من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَام بن مِلحان بكتاب إلى عامر بن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة فأجابوا وذهبوا معه حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم ولم ينجُ إلا كعب بن زيد وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم وعمرو بن أمية كان في سَرْح القوم
وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه، وكان فيما قال: «إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا»، وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد، فحزن عليهم r حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر، ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً.
فبينما رسول الله وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمد بن مسلمة يقول لهم: اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر. إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر.
فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولو:
لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً
وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ
وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ)
ولكن اليهود طمعوا بهذا الوعد وتأخروا هن الجلاء فأمر عليه الصلاة والسلام بالتهيؤ لقتالهم فلما اجتمع الناس خرج بهم في شهر ربيع الأول
واستعمل على ابن مكتوم وأعطى رايته عليا.
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ومنهم أكابرهم حُيَيُّ بن أخطب وسلاّم بن أبي الحُقَيْق ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام وأسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب
غزوة ذات الرقاع