الجَوَاب ُالبَاِهر
في زُوَّارِ المَقَابِر
لشيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
وحسبنا الله ونعم الوكيل
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : يقول أحمد ابن تيمية : إنني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان - أيده الله وسدده فيما رسم به - كتبت إذ ذاك كلاما مختصرا لأن الحاضر استعجل بالجواب وهذا فيه شرح الحال أيضا مختصرا وإن رسم ولي الأمر أيده الله وسدده أحضرت له كتبا كثيرة من كتب المسلمين - قديما وحديثا - مما فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكلام أئمة المسلمين الأربعة وغير الأربعة وأتباع الأربعة مما يوافق ما كتبته في الفتيا ؛ فإن الفتيا مختصرة لا تحتمل البسط . ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك ؛ لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين : لا الأربعة ولا غيرهم .
وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم وليس معه بما يقوله نقل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين ولا يمكنه أن يحضر كتابا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله ؛ ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره .
وأنا خطي موجود بما أفتيت به وعندي مثل هذا كثير كتبته بخطي ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقا وغربا فمن قال إن عنده علما يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط يعرف فيه من قال هذا القول قبله وما حجتهم في ذلك ؟ وبعد ذلك فولي الأمر السلطان أيده الله إذا رأى ما كتبته وما كتبه غيري فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس : يعرفه أقل غلمان السلطان الذي ما رئي في هذه الأزمان سلطان مثله زاده الله علما وتسديدا وتأييدا .
فالحق يعرفه كل أحد فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد . والله تعالى أوضح الحجة وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين . وأفضل النبيين وخير خلق الله أجمعين . فالعلماء ورثة الأنبياء عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه . فيجب أن يعرف " أولا " ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة وبعض المنتسبين إلى العلم قد صنف في هذه المسألة وما يشبهها مصنفا ذكر فيه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة ألوانا يغتر بها الجاهلون . وهو لم يتعمد الكذب ؛ بل هو محب للرسول صلى الله عليه وسلم معظم له لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب فإذا وجد بعض المصنفين في فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة اعتقده صحيحا وبنى عليه ويكون ذلك الحديث ضعيفا بل كذبا عند أهل المعرفة بسنته صلى الله عليه وسلم . ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله فإنه يحتاج أن يفهم مراده ويفقه ما قاله ويجمع بين الأحاديث ويضم كل شكل إلى شكله فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله . فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون ويجب تلقيه وقبوله وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين . وولي الأمر سلطان المسلمين أيده الله وسدده هو أحق الناس بنصر دين الإسلام وما جاء به الرسول عليه السلام وزجر من يخالف ذلك ويتكلم في الدين بلا علم ويأمر بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يسعى في إطفاء دينه إما جهلا وإما هوى . وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذين الوصفين فقال تعالى : { والنجم إذا هوى } { ما ضل صاحبكم وما غوى } { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى عن الذين يخالفونه : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ويخالفون شريعته وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين الذين يعرفون سنته ومقاصده ويتحرون متابعته صلى الله عليه وسلم بحسب جهدهم رضي الله عنهم أجمعين . فولي الأمر السلطان أعزه الله إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذي هو أولى الناس بوجوب الجهاد في سبيل الله باليد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتظهر حقيقة التوحيد ورسالة الرسول الذي جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم ويظهر الهدى ودين الحق الذي بعث به والنور الذي أوحى إليه ويصان ذلك عن ما يخلطه به أهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله ويجهلون دينه ويحدثون في دينه من البدع ما يضاهي بدع المشركين وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد ففي تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله . فولاة أمور المسلمين أحق بنصر الله ورسوله والجهاد في سبيله وإعلاء دين الله وإظهار شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الشرائع التي بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له وأن يعبد بما أمر وشرع لا يعبد بالأهواء والبدع . وما من الله به على ولاة الأمر وما أنعم الله به عليهم في الدنيا وما يرجونه من نعمة الله في الآخرة إنما هو باتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم ونصر ما جاء به من الحق .
وقد طلب ولي الأمر أيده الله وسدده المقصود بما كتبته . والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا . ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما أوجبه الله تعالى كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت ؛ أو ندب إليه كقيام الليل والسفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والاعتكاف وغير ذلك مع ما في ذلك من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعل في المساجد وفي زيارة القبور وغير ذلك . فإن الدين هو طاعته فيما أمر والاقتداء به فيما سنه لأمته . فلا تتجاوز سنته فيما فعله في عبادته : مثل الذهاب إلى مسجد قباء والصلاة فيه وزيارة شهداء أحد وقبور أهل البقيع .
فأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب فهذا ليس من العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل : كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم ؛ فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا ولا بعث بها رسولا ؛ مثل عبادات المخلوقين كعبادات الكواكب أو الملائكة أو الأنبياء أو عبادة التماثيل التي صورت على صورهم كما تفعله النصارى في كنائسهم يقولون إنهم يستشفعون بهم . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } أي ما كان بدعة في الشرع وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمي بدعة كقول عمر رضي الله عنه في قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل . وقيام رمضان قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه } . وكانوا على عهده صلى الله عليه وسلم يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل وحده ويصلي الرجل ومعه جماعة جماعة . وقد صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم جماعة مرة بعد مرة . وقال : { إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة } . لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس خشية أن يفرض عليهم فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرا ونوالي من يواليه ونعادي من يعاديه . ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم . ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدا ناجيا من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا . ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته . وهو أفضل الأولين والآخرين وخاتم النبيين والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمى التي ميزه الله بها على سائر النبيين صاحب المقام المحمود واللواء المعقود لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه . وهو أول من يستفتح باب الجنة { فيقول الخازن : من أنت ؟ فيقول : أنا محمد . فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك } .
وقد فرض على أمته فرائض وسن لهم سننا مستحبة فالحج إلى بيت الله فرض والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف مستحب باتفاق المسلمين . وإذا أتي مسجده فإنه يسلم عليه ويصلى عليه . ويسلم عليه في الصلاة ويصلى عليه فيها فإن الله يقول : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ومن سلم عليه سلم الله عليه عشرا . وطلب الوسيلة له كما ثبت في الصحيح أنه قال : { إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة } رواه مسلم . وروى البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد : حلت له شفاعتي يوم القيامة } . وهذا مأمور به . والسلام عليه عند قبره المكرم جائز لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } . وحيث صلى الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه لما في السنن عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ - أي صرت رميما - قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } . رواه أبو داود وغيره . فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب . وفي النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام } . وقد أمرنا الله أن نصلي عليه وشرع ذلك لنا في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات ثم نقول : { السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته } . وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها . وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا : { اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } . وكان المسلمون على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا أصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج - بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء بل كرهوا رفع الصوت في مسجده وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين يرفعان أصواتهما في مسجده ورآهما غريبين فقال : أما علمتما أن الأصوات لا ترفع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لو أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا . وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه لم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة . ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد وأدخلت فيه الحجرة للضرورة : فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن قد توفين كلهن رضي الله عنهن فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد . فهدمها وأدخلها في المسجد وبقيت حجرة عائشة على حالها وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة فإنها توفيت في خلافة معاوية ثم ولي ابنه يزيد ثم ابن الزبير في الفتنة ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة قيل إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه آخر من مات بها في سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين . ففي حياة عائشة - رضي الله عنها - كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث ولاستفتائها وزيارتها من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك - بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهن وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفة مبطوحة ببطحاء العرصة . وقد اختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة والذي في البخاري أنها مسنمة . قال سفيان التمار إنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما - ولكن كان الداخل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة . وهذا السلام هو القريب الذي يرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه . وأما السلام المطلق الذي يفعل خارج الحجرة وفي كل مكان فهو مثل السلام عليه في الصلاة وذلك مثل الصلاة عليه . والله هو الذي يصلي على من يصلي عليه مرة عشرا ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرا . فهذا هو الذي أمر به المسلمون خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف السلام عليه عند قبره فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه في الحياة عند اللقاء . وأما الصلاة والسلام في كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي أمر العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما . صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقيه وقبليه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة } هذا لفظ الصحيحين ولفظ " قبري " ليس في الصحيح فإنه حينئذ لم يكن قبر . ومسجده إنما فضل به صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي بناه وأسسه على التقوى . وقد ثبت في الصحيحين . عنه أنه قال : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام } . وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة هكذا روى أحمد والنسائي وغيرهما بإسناد جيد . والمسجد الحرام هو فضل به وبإبراهيم الخليل فإن إبراهيم الخليل بنى البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا في أول الإسلام وإنما فرض في آخر الأمر . والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر . ومن قال : في سنة ست فإنما استدل بقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } فإن هذه نزلت عام الحديبية باتفاق الناس لكن هذه الآية فيها الأمر بإتمامه بعد الشروع فيه ليس فيها إيجاب ابتداء به فالبيت الحرام كان له فضيلة بناء إبراهيم الخليل ودعاء الناس إلى حجه وصارت له فضيلة ثانية فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي أنقذه من أيدي المشركين ومنعه منهم . وهو الذي أوجب حجه على كل مستطيع . وقد حجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها فعبد الله فيه بسبب محمد صلى الله عليه وسلم أضعاف ما كان يعبد الله فيه قبل ذلك وأعظم مما كان يعبد فإن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم . ولما مات دفن في حجرة عائشة ؛ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا . قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } . وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . فنهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها ولعن اليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح قال الله تعالى عنهم : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا } قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم . فهو صلى الله عليه وسلم لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار . ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك - كما تقدم - بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى الله عليه وسلم . وفي موطأ مالك عنه أنه قال : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة . وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره . لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه وهذا إنما يفعل خارجا عند حجرته لا عند قبره . وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر . كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة . فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد ولا يتخذ بيته عيدا . ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء - وهو الرمل الغليظ - ليس عليه حجارة ولا خشب ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره . وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سدا للذريعة كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يفضي ذلك إلى الشرك . ودعا الله عز وجل أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد ؛ فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدا لا يدخل عند قبره ألبتة فإن من كان قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها . وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره صلى الله عليه وسلم .
فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره - كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج - عمل صالح مستحب . وقد ذكرت في عدة " مناسك الحج " السنة في ذلك وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أم القبلة ؟ على قولين فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد . وأبو حنيفة يقول : يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد . بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح . والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة . ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور ؛ بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما { كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } . وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى ؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا أن نصلي عليه وأن نسلم عليه في كل صلاة ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد - مسجده وغير مسجده - وعند الخروج منه فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة . والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك رحمه الله أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان . وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء فإنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول : { السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين } . ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه . وأما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور . وأما هو صلى الله عليه وسلم فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة . ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والصلاة إلى القبر واتخاذه وثنا . وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري : لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس } . فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف ؛ والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره . وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ؛ والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ؛ والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه . ما لم يحدث } . ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن سافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس أو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم . ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ؛ إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء خاصة . ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا كل سبت ويصلي فيه ركعتين وقال { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة } رواه الترمذي وابن أبي شيبة وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر : صلاة فيه كعمرة .
ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين . ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان : أحدهما : ليس عليه الوفاء وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع . والثاني : عليه الوفاء وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر ؛ لأن هذا طاعة لله . وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم . بل قد قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد } . والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في " المبسوط " ومعناها في " المدونة " و " الخلاف " وغيرهما من كتب أصحاب مالك . يقول : إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره وإن قصد شيئا آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة . وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال بخلافه بل كلامهم يدل على موافقته . وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين : التحريم والإباحة . وقدماؤهم وأئمتهم قالوا : إنه محرم . وكذلك أصحاب مالك وغيرهم . وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } . صيغة خبر ومعناه النهي فيكون حراما . وقال بعضهم : ليس بنهي وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها . فيقال له : تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفا للإجماع والتعبد بالبدعة ليس بمباح لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر فإذا بينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ولا التعبد بما نهى عنه كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها وكما لا يجوز صوم يوم العيدين وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات ؛ ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم . فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا . وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا في المسألة وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة فإن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي ومن بعدهم إلى انقراض عصرهم - لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح . و " قبر الخليل عليه السلام " بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة . وكانوا يأتون البيت المقدس فيصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل عليه السلام ولم يكن ظاهرا بل كان في البناء الذي بناه سليمان بن داود عليهما السلام ولا كان : " قبر يوسف الصديق " يعرف ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره ونقل ذلك عن مالك وغيره لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف . ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل عليه السلام واتخذوا المكان كنيسة . ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا . وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو صلى الله عليه وسلم مدفون في حجرة عائشة رضي الله عنها فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجا عنها في المسجد عند السور . وكان يقدم في خلافه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق وهم الذين قال الله فيهم : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ويصلون في مسجده كما ذكرنا ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد بل السلام عليه من خارج الحجرة . وعمدة مالك وغيره فيه على فعل ابن عمر رضي الله عنهما . وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع . فإما أن يجعل هو الدين الحق وتستحل عقوبة من خالفه أو يقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين . وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة . فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر . ونحن لا نكفر أحدا من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل ولا في غيرها . ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع - إجماع الصحابة والعلماء - أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة وما نهى عنه بخلاف ذلك بل قد يكون شركا كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها . بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام . ويسمون ذلك " الحج الأكبر " وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه " مناسك حج المشاهد " وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق . وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه ندا ولا كفوا ولا سميا . قال تعالى : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } وقال تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وقال تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : { قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . قلت ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك } فأنزل الله تصديق رسوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما } الآية وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } . فمن سوى بين الخالق والمخلوق في الحب له أو الخوف منه والرجاء له فهو مشرك . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال صلى الله عليه وسلم { من حلف بغير الله فقد أشرك } رواه . أبو داود وغيره . { وقال له رجل : ما شاء الله وشئت ؛ فقال : أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده } وقال : { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ؛ ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد } و { جاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال : ما هذا يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم . فقال : يا معاذ ؟ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها } . فلهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهي مثل الصلاة على جنائزهم ؛ وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله ندا وسووه برب العالمين . وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة فأخبرهم تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال . ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك . قال تعالى . { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } . ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه وشفاعته أعظم الشفاعات وجاهه عند الله أعظم الجاهات ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ثم من نوح ثم من إبراهيم ثم من موسى ثم من عيسى كل واحد يحيلهم على الآخر فإذا جاءوا إلى المسيح يقول : اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ قال : { فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال : أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع . قال : فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة } الحديث . فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة . ومن قال : إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن ؛ قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } وقال تعالى : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } ومثل هذا في القرآن كثير . فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص . والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالفرقان ففرق بين هذا وهذا ؛ فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه .
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده ؛ وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح . ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل . وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته . وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما أنه محرم والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له . والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية : يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة وهذا مشروع باتفاق المسلمين . وقد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه . وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا مع أن فيه نزاعا ؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقا ومنهم من يكرهها مطلقا كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجلة التابعين . ونقل ذلك عن مالك . وعنه أنها مباحة ليست مستحبة . وهو أحد القولين في مذهب أحمد ؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور : أن الزيارة الشرعية مستحبة . وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم فيسلم عليهم ويدعو لهم . وتزار قبور الكفار ؛ لأن ذلك يذكر الآخرة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور [ به ] في حق الرسول في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها وعند الأذان وعند كل دعاء . وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد ونهى أن يتخذ قبره عيدا وسأل الله أن لا يجعله وثنا يعبد . فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره . وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه الله وفضله به على غيره وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره - وإن كان جائزا . وأما " اتخاذ القبور مساجد " فهذا ينهى عنه عند كل قبر وإن كان المصلي إنما يصلي لله ولا يدعو إلا الله . فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة وأما إذا قدر أن من أتى المسجد فلم يصل فيه ؛ ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح ؟ وما علمنا أحدا من علماء المسلمين استحب مثل هذا بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد وجعلوا هذا من السفر المنهي عنه . ولا كان أحد من السلف يفعل هذا بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه . ولم يكونوا يذهبون إلى القبر . وهذا متواتر عنهم لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلى خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها . وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم . فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره فكيف يقصدون أن يسافروا إليه ؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد ؟ ومن قال : إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ثم إذا نقله يكون قائله