قال تعالى
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وها هى قصة جديدة من قصص الحيوان والقرآن الكريم ، وسنتعايش هذه المرة مع ناقة نبى الله صالح عليه السلام ولعلكم قد اشتقتم مثلى إلى تلك القصة الجميله .
فتعالو بنا لنتعايش بقلوبنا وأروحنا مع قصة ناقة صالح عليه السلام
لقد أهلك الله عز وجل قوم عاد لما كفرا بربهم ... ثم جاءت أمة أخرى من بعد ( عاد ) – وهم قوم ( ثمود ) – ولكنهم ما جاءوا ليعتبروا بهلاك الأمم من قبلهم فيؤمنوا بالله عز وجل جاءوا ليتمسكوا مسيرة الكفر والشرك التى بدأها قوم نوح عليه السلام ووقع فيها قوم ( عاد ) فأهلكهم الله بذموبهم ( ولا يظلم ربك أحدا ) .
وقوم ثمود هم قوم نبى الله صالح عليه السلام .
وكانوا يسكنون فى منطقة تسمى ( الحجر ) فى شمال الجزيرة العربية بين الحجاز وتبوك .
وكان قوم ثمود قد أنعم الله عليهم بالخيرات والنعم الكثيرة فكانوا يعيشون فى مكان يظلله النخيل والأشجار وتنتشر فيه الكثير من العيون والمياه العذبة ... فكانوا فى سعادة ونعيم حتى أنهم كانوا يقيمون القصور الفخمة فى السهول .
نعم .. لقد كان الواحد منهم يبنى بيتا من أغصان الشجر وعروقه ولكن البيت كان يتهدم قبل وفاة صاحبه فما كان منهم إلا أن فكروا فى بناء بيوت قوية فى الجبال فكانت تلك البيوت منيعة قوية . لقد كان الواحد منهم يذهب إلى الصخره فينحتها بيده ويتخذها بيتا له ولأسرته ... وهذا من فرط قوته التى أعطاه الله يراها .
وظلوا على هذا الحال فترة من الزمان .. وكانوا كلما مرت الأيام نسوا نعم الله عليهم حتى اتهى بهم الأمر إلى أن كفروا بالله ( جل وعلا ) ونحتوا أصناما ليعبدوا مثل ما فعل قوم نوح وقوم عاد من قبل .
وفى ظل هذا الظلام الحال من الكفر الذى انتشر بهم أرسل الله إليهم نبيا صالحا ليدعوهم إلى عبادة الواحد القهار .
نبى الله صالح عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد
لقد كان قوم ثمود يعيشون فى رخاء ونعيم لا يعلمه إلا الله
( جل وعلا )
... فها أنت وكأنك تراهم قد فجروا العيون ، وغرسوا الحدائق والبساتين ، وشيدوا القصور ، ونحتوا من الجبال بيوتا ، وكانوا فى سعة من العيش ورغد ، ونعمة وتلف ، ولكنهم لم يشكروا الله ، لم يحمدوا له فضله ؛ بل زادوا عتوا فى الأرض وفسادا ، وبعدا عن الحق واستكبارا ، وعبدوا الأوثان من دون الله ، وأشركوا به ، وأعرضوا عن آياته ، وظنوا أنهم فى هذا النعيم خالدون ، وفى تلك السعة متروكون . بعث الله إليهم صالحا من أشرفهم نسبا وأوسعهم حلما ، وأصفاهم عقلا ، فدعاهم إلى عبادة الله ، وحضهم على توحيده ، ... فهو الذى خلقهم من تراب ؛ وعمر بهم الأرض ، واستخلفهم فيها ، وأسبغ عليهم نعمه ، ظاهرة وباطنة ، ثم نهاهم أن يعبدوا الأصنام فهى لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ولا تغنى عنهم من الله شيا .
وبدأ يذكرهم بأن هذا النعيم لا يدوم لأحد فإن الدنيا قنطرة يعبر عليها العبد إلى آخرته ولذلك
قال لهم صالح عليه السلام :
( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152
خلاصة دعوة صالح عليه السلام لقومه
بدأ صالح عليه الصلاة والسلام بدعوة قومه إلى عبادة الله وحده ، وعدم الإشراك به ، وهى (( نقطة البدء )) التى بها كل نبى ... ولهذا قال لهم : ( يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . وقدم لهم نفسه باعتباره رسولا أمينا لهم ، وأمرهم بطاعته ،
وحثهم على تقوى الله :
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) . وأخبرهم بعد انتظاره الأجر منهم ، وإنما يقوم بواجبه فى دعوتهم إلى الله ... أما الأجر فهو عند الله (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) . ولفت أنظارهم إلى آيته البينة ، وهى الناقة ، ونهاهم عم إيذائها :
( قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم أية فذروها
تأكل فى أرض الله تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) .
وذكرهم بنعم الله عليهم ، فى استخلافهم بعد عاد ، وفى تسخير الأرض لهم ، وطالبهم بمقابلة نعم الله بالشكر، وليس بالإفساد والكفر
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم فى
الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون
الجبال بيوتا فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا فى الأرض مفسدين ) .
وقال لهم
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها
فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب
وبينما أمرهم صالح بتقوى الله وطاعته ، وطاعة صالح نفسه باعتباره رسولا لهم ، فقد نهاهم عن العكس والنقيض ... نهاهم عن طاعة المسرفين الظالمين ، من كبرائهم وساداتهم :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ
(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) .
وهذه خلاصة دعوة صالح عليه السلام لثمود ،
فماذا كان ردهم عليه ؟ وماذا قالوا له ؟
خاب ظنهم فيه مع أنه جاء لينقذهم !!!
لقد شب صالح عليه السلام فى قومه ، ونشأ بينهم ، ورأوا صفاته الطيبة ، وعرفوه عن يقين ، وكان معقد آمالهم ، ومحط رجائهم وكانوا ينتظرون من الكثير لهم ، وظنوا أنه سيتابعهم على كفرهم ، ويشاركهم شركهم بالله ، ولذلك جعلوه مرجوا فيهم . ولكنهم فوجئوا بنبوته ، ودعوته إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة ، والتخلى عن ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان والأصنام ، واعتبروها دعوة غريبة مستهجنة مرفوضة !! فلما قام صالح عليه السلام وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم وأمرهم يتوجهوا بالعباده لفاطر السموات والأرض كانت النتيجة أنهم تعجبوا أن يأتيهم رجل
فيطلب منهم أن يتركوا دين الأباء والأجداد
قالوا ياصلح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهنا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب ( 62 ) ) .
لقد كان لنا رجاء فيك ... كنت مرجوا فينا لعلمك
أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك .
أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟! .. كل شئ نقبله منك إلا هذا يا صالح .. ما كنا نتوقع أبدا أن تعيب آلهتنا التى كان يعبدها الأباء والأجداد . إن أهل الباطل يبغضون من يدعوهم إلى الحق ويحاول أن يحملهم عليه ، صالح عليه السلام كان محبوبا
عندهم قبل أن يدعوهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ...
كما قال تعالى – حكاية عنهم :
( ياصلح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا )
ثم تغير الحال بعد دعوته إياهم حتى صار من
أبغض الناس إليهم من أنه تلطف معهم فى الدعوة وصبر عليهم .
صالح عليه السلام يستمر فى الدعوة
وأستمر نبى الله صالح عليه السلام فى دعوة قوم ثمود ولم ييأس من هدايتهم . وكان (( صالح )) معروفا بينهم بالخلق الكريم والسيرة الحسنة ، ولم يكن غنيا مترفا ؛ بل كان متوسط الحال . أخلص (( صالح )) فى نصيحة قومه ، وذكرهم بالله الخالق ، وخوفهم من بأسه الشديد ، ونهاهم عن عبادة الأحجار التى لا تضر ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تتكلم ولا تغطى ولا تمنع . وكان لا يترك فرصة تمر دون أن يعظهم ، ويهديهم إلى الخير ، ويدعوهم إلى الحق . فاستجاب له البسطاء الضعفاء ، وآمنوا به ، واستمعوا لقوله واتبعوه أما الأغنياء وأصحاب السلطان والنفوذ فسخروا منه ، وهزئوا به وبالمؤمنين الذين أيدوه . وكان (( صالح )) يذكرهم بأنه لا يريد على النصيحة أجرأ ، ولا على الهداية ثوابا ، إنما يطلب الجزاء من الله تعالى .
واستمر عليه السلام فى دعوة المؤمنين إلى طاعة لله وحده وأن لا يستمعوا إلى زعمائهم من الأغنياء وأصحاب النفوذ ؛ لأن هؤلاء يفسدون فى الأرض ولا يصلحون . وكان المستكبرون من قوم
(( صالح )) معاندين ؛ فعز عليهم أن يطيعوا رجلا بسيطا منهم ويصبحوا أتباعا له ؛ يستشيرونه ويستهدونه ! وقاموا بالقتنة ؛ فجاؤوا إلى المستضعفين من المؤمنين وقالوا لهم
( اتعلمون أن صلحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ( 75 ) قال الذين استكبروا إنا بالذى ءامنتم به كفرون ) .
هكذا أصر الكفار على كفرهم وثبت المؤمنون على إيمانهم ولم ييأس نبى الله صالح عليه السلام من دعوة هؤلاء الكافرين فكان يدعوهم إلى الله وهم يكذبونه ويسخرون منه فكان يصبر على إيذائهم ويذكرهم بنعم الله عليهم لعل قلوبهم تنفتح
لنعمة الإيمان والتوحيد ... فكان يقول لهم :
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم
فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون
الجبال بيوتا فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا فى الأرض مفسدين ) .
ومع ذلك لم تتحرك قلوبهم ولم تتأثر بتلك الدعوه الهادئة الرحيمة . ولم يكتفوا بذلك بل اتهموا نبى الله صالحا عليه السلام بالسحر والجنون ومع ذلك لم يلتفت لتلك الاتهامات بل استمر فى دعوته رجاء أن يهديهم الله على يديه .
صالح عليه السلام يستمر فى دعوتهم
فلما وجدوا أنفسهم لا يملكون أى حجة أمام الحجاج الساطعة والكلمات الناصعة التى تخرج من فم صالح عليه السلام والتى تدعوهم لى توحيد البارى ( جل وعلا ) .. وإذا بهم يطلبون منه الأيات ظنا منهم أنه سيعجز عن أن يأتيهم بأية من عند ربه عز وجل . ( قالوا إنما أنت من المسحرين ( 153 ) ما أنت إلا
بشر مثلنا فأت بأية إنى كنت من الصدقين ( 154 ) ) .
وإذا به يجيبهم إجابة الواثق فى موعود ربه عز وجل ويقول لهم :
( هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ( 155 )
ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم ) .
خروج الناقة من الصخرة
وها هى تفاصيل خروج تلك الناقة المباركة .
فلقد كان قوم صالح عليه السلام يجلسون فى ناديهم الذى يجتمعون فيه فجاءهم نبى الله صالح عليه السلام فدعاهم إلى الله وذكرهم ولم ييأس من هدايتهم لحظة واحدة فهو يعلم أن
قلوب العابد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فلما دعاهم إلى الله قالوا له : يا صالح ..
إن أنت أتيت بآية
( معجزة ) لنؤمنن معك بربك فى التو والحظة . فقال : وأى آية تريدون ؟ قالو : نريد منك أن تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عظيمة – وذكروا له أوصافا لا تخطر على قلب بشر – ثم قالوا : فإن فعلت ذلك آمنا معك . فما كان من بنى الله صالح عليه السلام إلا أن لجأ إلى الله عز وجل الذى يسمع ديب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء . وقال : يارب أرهم هذه الأية لعلهم يهتدون ... ثم نظر إليهم وقال : أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذى طلبتم ، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقونى فيما أرسلت به ؟ قالوا : نعم ، فأخذ عهدهم ومواثيقهم على ذلك . ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عز وجل ما قدر له ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا .
وفجأة .. حدث شئ لم يخطر ببالهم أبدا .. يا ترى ما الذى حدث ؟ .. لقد انشقت الصخرة وصدر منها صوت شديد ... وخرجت ناقة عشراء بنفس الصفات التى طلبوها فكادت عقولهم أن تطيش ، وكادت قلوبهم أن تلين .. ولكن هيهات هيهات فقد
كانت قلوبهم أشد قسوة من الحجارة .
لقد آمن بعضهم ودخل الإيمان قلبه وعلم يقينا أن
صالحا مرسل من ربه عز وجل .. ولكن بقى أكثرهم
على الكفر الذى ملأ قلوبهم ، ولم يفارقهم لحظة واحدة .
ناقة مباركة
وظلت هذه الناقة تعيش بينهم زمانا فى أمان ... وذلك لأن صالحا عليه السلام حذرهم من أن يمسوها عليهم عذاب الله وسخطه . وأخبرهم بأن هذه الناقة ستشرب من الماء يوما وهم يشربون يوما .. ففى اليوم الذى يشربون فيه تمتنع الناقة عن الماء وفى اليوم الذى تشرب فيه الناقة يمتنعون عن الماء ويحلبون لبن الناقة الذى كان كفهيهم أجمعين .