قصة الصحابة "البكائين" في القرآن
الإخلاص وصدق النية هما سنام كل طاعة، وبدونه قد تتغير نيه العبد ويصبح عمله هباءً منثورًا، وقد كان الصحابة الكرام يعيشون تلك المعاني الراقية، بل يبكون تعلقًا بطاعة الله إذا ما فاتتهم، ويبكون شوقًا إلى الله.
وفي سورة التوبة، تصور لنا آية كريمة موقفًا لبعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يتمنون الجهاد في سبيل الله ونيل الشهادة وذلك عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهز جيش العسرة، ولكن منعتهم الحاجة والفقر من ذلك، فذهبوا إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، لعلهم يجدون عنده الحل، ولكن كان الحبيب قد استكمل تنظيم الجيش ولم يعد هناك عتادًا ولا دوابًا ليحملهم عليهم، فانظروا كيف يصف لنا القرآن الكريم رد فعلهم.
قال الله تعالى:
{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ
لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ
مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}..
[التوبة:92].
لم يجد النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ما يحمل عليه هؤلاء المخلصين، فقد كان أكثر من شخص يتشاركون الدابة الواحدة لنقص الدواب، فذهبوا وهم يبكون حزنًا على فوات هذا الفضل وعدم مشاركتهم في الجهاد في سبيل الله، ولهذا سموا بـ "البكائين".
وقد تحدث إمام الدعاة عن تلك الآية والدروس التي نتعلمها منها فقال: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع الحرج عن هؤلاء، ووظَّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك.
أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد: ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال. فهذا إذن بالقعود، لكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون.
ولذلك
قال الله تعالى:
{ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً
أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ }
وكلمة " تفيض أعينهم " توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين. والفيض دائماً للدموع، والدموع هي ماء حول العين؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال: " بكيت دما ".
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنين على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى: " فاضت دموعهم " ، ولم يقل: " بكوا دماً بدل الدموع " ، وإنما قال: { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } ، فكأن العين ليس فيها ماء، ولا دم، ولم يعد إلا أن تفيض العين على الخد، وذلك إظهار لشدة الحزن في القلب، وهذا المجاهد لا لوم عليه ولا ذنب؛ لأنه فعل ما في وسعه وما في طاقته وعبر عن ذلك بحرقة مواجيده على أنه لم يكن من أهل الجهاد.