عن أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت :
( كان خلقه القرآن )
(أحمد) ،
وتريد بذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
كان في مسلكه الخُلُقي محققاً لأدب القرآن في كل ما أحبه الله
من الصفات الطيبة والأخلاق العظيمة ..
ومِن ذلك أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فكان ـ
صلى الله عليه وسلم ـ أوفى الناس بعهده ،
وأمر بالتواضع فكان أكرم الخلق تواضعاً
وأمر بالعبادة فكان أكثر العباد إقبالاً على العبادة ،
وحث على الشجاعة فكان أشجع البشر ،
وحبب للمؤمنين الصفح والعفو فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أعفى الخلق وأصفحهم ،
وحض على الرحمة والبر فلا يُعرف من يدانيه رحمة وبراً..
وهكذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يترجم بفعله أكرم الأخلاق التي رغب الله فيها عباده الصالحين ،
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال:
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
(أحمد) .
فتثبيت الفضائل الخلقية وغرسها في البشرية كان
بمثابة الهدف الأعلى لرسالته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ..
الشجاعة المحمدية :
الشجاعة خلق فاضل ووصف كريم ،
لا سيما إذا كانت في العقل والقلب ،
وفي الناحيتين المعنوية والحسية على السواء ،
وصاحبها من أهل الإيمان والعلم ،
وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلاً أعلى في الشجاعة كلها .
وقد تجلت شجاعته المعنوية في وقوفه بدعوته الربانية في
وجه الكفر وأهله ،
إذ كان العالم حين بُعِث ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قد انصرف عن طريق الله ، وغرق في بحر من المعاصي
والآثام والشرك ، فثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
على دعوته يحتمل في سبيلها أشد ألوان الأذى والبلاء ..
وقد حاولت قريش معه مختلف الوسائل من الاضطهاد والإيذاء ،
والإغراء بالمال والنساء ، والزعامة والملك ،
فلم يزدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إلا ثباتاً على دينه ، وتصميماً على إبلاغ دعوته ،
حتى كتب الله له الفلاح والنصر ، وأظهر دينه على الدين كله ..
أما شجاعته الحسية فعجب من العجب ،
يشهد له بها أهل البطولة ،
إذ كان من الشجاعة والقوة بالمكان الذي لا يجهل ،
حضر المواقف والمعارك الصعبة ،
وفر عنه الأبطال والشجعان ، وهو ثابت لا يتزحزح ،
ومُقْبِل لا يدبر، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة
إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
قال علي ـ رضي الله عنه ـ :
( كنا إذا حمي البأس ، واحْمرَّت الحَدَق ،
اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه )
(أحمد) .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس
وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة ،
فخرجوا نحو الصوت ، فاستقبلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُرْي(مجرد من السرج) ،
وفي عنقه السيف ،
وهو يقول : لم تراعوا ، لم تراعوا .. )
(البخاري)..
لم تراعوا ، لم تراعوا : أي لا تخافوا ولا تفزعوا ..
وفي ذلك بيان لشجاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
حيث خرج قبل الناس وحده لمعرفة الأمر ليطمئنهم ..
والأمثلة التطبيقية العملية من حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
التي تدلل على شجاعته وثباته كثيرة ،
فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله ،
وقد شج وجهه ، وكُسِرَت رَبَاعِيَتُه -
صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .
وفي يوم حنين ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في وجه الآلاف من هوازن ، بعد أن تفرق عنه الناس خوفا
واضطراباًً من الكمين المفاجئ الذي تعرضوا له .
ويصف البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ
الموقف فيقول لرجل سأله : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟
، فقال :
( أشهد على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -
ما ولَّى ، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر(من لا سلاح معهم)
إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة ،
فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْل(قطيع) من جراد فانكشفوا ،
فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم –
وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته ،
فنزل ودعا واستنصر وهو يقول :
أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، اللهم نزِّل نصرك ) .
قال البراء : " كنا والله إذا احمر البأس(الحرب) نتقى به ،
وإن الشجاع منا للذي يحاذى به .
يعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - "
(البخاري).
قال ابن كثير في تفسيره بعد سياق هذا الحديث : " ..
وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ،
أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى ،
وقد انكشف عنه جيشه ، وهو مع هذا على بغلة ،
وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب ،
وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه ،
ليعرف من لم يعرفه - صلى الله عليه وسلم -
دائما إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ،
وتوكلا عليه ، وعلما منه بأنه سينصره ،
ويتم ما أرسله له ، ويظهر دينه على سائر الأديان " .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال :
( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
غَزَاة قِبَلَ نَجْد، فأَدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في القائلة في واد كثير العِضَاهِ (شجر فيه شوك) ،
فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
تحت شجرة فَعلّق سيفه بِغُصْن مِن أغصانها ،
وتفرّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر .. قال :
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إِنَّ رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت
وهو قائم على رأسي ، والسيف صَلْتا(مسلولا) في يده ،
فقال: مَن يَمْنَعُكَ مني؟ ، قلت : الله ،
فشامَ السيف ( رده في غِمْده ) ،
فها هو ذا جالِس ،
ثم لم يعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(مسلم) .
قال ابن حجر في فتح الباري :
" وفي الحديث فرط شجاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وقوة يقينه ، وصبره على الأذى ، وحلمه عن الجهال " .
لقد كانت مواقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأخلاقه مضرب المثل والقدوة ،
فهو شجاع في موطن الشجاعة ، قوي في موطن القوة ،
عفو في موطن العفو ، رحيم رفيق في موطن الرحمة والرفق ،
فصلوات الله وسلامه عليه ..