القصة الحادية والثلاثون
عقوبة العُجب
قال صهيب بن سنان الرومي رضي الله تعالى عنه :
كان المسلمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابعون نبيهم صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته ، وأقواله وأفعاله ، وعلاقته بالصغير والكبير فهو صلى الله عليه وسلم أسوتهم وقدوتهم لا يتركونه في لحظة من لحظات خروجه من بيته إلى أن يعود إليه . بل كانوا يسألون نساءه – أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ- عن حياته صلى الله عليه وسلم في أبياته وبين زوجاته كي يكون المشكاة التي يرون بنورها ، ويتصرفون على هداها .
رآه أصحابه يوم حنين بعد صلاة الفجر يحرك شفتيه بشيء لا يسمعونه .
فقالوا : يا رسول الله رأيناك تحرك شفتيك بشيء لا نفهمه .
قال صلى الله عليه وسلم : ألم نكن في معركتنا مع القوم اثني عشر ألف مقاتل ؟
قالوا بلى ؛ يا رسول الله .
قال : أتدرون لم انكفأتم أول المعركة ، وتركتموني مع ثلة من إخوانكم المؤمنين الذين ثبتوا معي في وجه قبائل هوازن وثقيف وسعد بن بكر وغيرهم ؟
سكت القوم فلم ينبسوا ببنت شفة لأنهم كانوا يعرفون السبب ، فقد رأوا جموعهم – جموع المسلمين - كثيرة وأسلحتهم وافرة ، ورأوا أنفسهم ينتقلون من نصر إلى آخر بفضل الله وحوله ، وكان آخر انتصارات المسلمين ذلك الفتح المبين " فتح مكة " .. فلما التقوا في حنين بهوازن وأحلافها أعجبت المسلمين كثرتـُهم ، واغتروا بقوتهم ، وأنساهم الشيطان أن النصر من عند الله ، فقالوا : لن نُغلب اليوم عن قلة !!
فأراد سبحانه وتعالى أن يعيدهم إلى جادّة الصواب ، إلى التوكل على الله والاعتماد عليه ، فوكلهم إلى أنفسهم أول الأمر ، فضعفوا وهربوا ، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم :
أنا النبي لاكذِبْ .... أنا ابن عبد المطلبْ
وأمر عمه العباس أن ينادي المسلمين بصوته الجهوري يحثهم على العودة إلى القتال ، وان يتحلقوا حول بطل الأبطال وسيد الشجعان نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام . فناداهم ، وبدأ الذهول ينقشع عنهم ، وآبوا إلى الحبيب المصطفى يقاتلون معه ، ويدفعون عنه ، ويستغفرون الله تعالى أن يقيلهم من زلتهم هذه ، وان يعفو عنهم وينصرهم ، فقد تعلموا الدرس ، وأيقنوا أن نصر الله باللجوء إليه ، واللياذ به سبحانه " ، فحول النصر إليهم والهزيمة إلى عدوّهم ، وأنزل الله تعالى في سورة التوبة يقرر هذا الأمر ، ويصور هذه الحادثة لتكون العبرة َ على مر الدهر "
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة " ..
فالنصر من الله وحده ، وبيده سبحانه فقط ...
" ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتُكم .." ومن أعجب بكثرته وقوته رفع الله تعالى يده عنه لأنه تعلق بغير حبل الله تعالى فوكله إلى نفسه .
" 1- فلم تغن عنكم شيئاً ،
2- وضاقت عليكم الأرض بما رحُبتْ ،
3- ثم وليتم مدبرين ،"
وهكذا ضاعوا بداية الأمر لخطئهم الكبير هذا ... فلما أحسوا بهذا الزلل وذلوا لله تعالى ، والتفوا حول نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم وعلموا أن النصر بإذن الله وتوفيقه ، وعلموا أن الله ينصر المؤمنين القلائل على الكفار الكثيرين بتأييد منه سبحانه
" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " أعاد إليهم الثبات ووهبهم القوة ، وأيدهم بالملائكة ، فاستراحت نفوسهم وتعلقت بالله سبحانه فكانت الدائرة لهم على عدو الله وعدوهم :
" 1- ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ،
2- وأنزل جنوداً لم تروها ،
3- وعذّب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين " .
ثم قالوا : الحمد لله على فضله وكرمه ؛ يا رسول الله ...ولكن ما علاقة هذا بما حركت به شفتيك وكأنك تحدث نفسك .
قال : إن نبياً ممن كان قبلكم نظر إلى قومه فأعجبه كثرتهم وقوتهم . فقال : من يفي لهؤلاء؟ ! ومن يقوم لهم ؟! وظن أن الكثرة والقوة وحدهما كفيلتان بأن تصلا إلى النصر والغَلَبة فقال : لن يروم أحداً هؤلاء بشيء . ولا يقف أمامهم أحد ..
وهذا عجب بالنفس يبعد عن الحقيقة التي يريد المولى سبحانه أن يعلـّمناها ، فنتمسك بها . وكان لا بد من رده وقومه إلى جادة الصواب وإلى الدين القويم . وقد يكون الرد صعباً – بعقوبة - وقد يكون سهلاً – بعفو - وكل ذلك بمشيئة الله تعالى ..
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه المشهور " اللهم ردّنا إلى دينك ردّاً جميلاً " فقد كان الرد لهذا النبي الكريم الذي يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقومه قاسياً وعقوبة شديدة .
قال الصحابة : يا رسول الله ؛ فما هي العقوبة ؟
قال صلى الله عليه وسلم : خيـّر الله تعالى ذلك النبي وأصحابه بأمر من ثلاثة أمور :
1- أن يسلط عليهم عدواً شديداً يحتل بلادهم ويستبيحها ، فيأسرهم ويستذلهم .
2- أو أن يعاقبهم بالجوع الشديد .
3- وإما أن يرسل عليهم الموت فيقبض منهم الكثير .
فزع النبي الكريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأصحابه إلى الصلاة والدعاء والاستغفار ، فصلوا ما شاءوا - فمن حزبه أمر فليلجأ إلى الله تعالى يستخيره ويستلهمه - وسألوا الله السداد في الاختيار .
ثم قالوا : لا نصبر على الأولى والثانية ، فما أحد يرضى أن يستذله عدو غاشم ، ولا نصبر على الجوع ، فهو موت بطيء قاتل .
ولكن نختار الموت ، فمصير العباد كلهم إلى الموت .. اللهم هوّن علينا الموت ، وارحمنا إذا ما صرنا إليك ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فمات منهم في يوم - أو قال ثلاثة أيام - سبعون ألفاً .
أرأيتم كيف فضل الله تعالى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فخفف عنهم ، ورفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أما أنا فأقول : " اللهم بك أقاتل ، وبك أحاول ، وبك أصاول ، ولا قوة إلا بك " .
فقال أصحابه من بعده : اللهم بك نقاتل ، وبك نحاول ، وبك نصاول ، ولا قوة إلا بك .
وذلت ألسنتهم بها .
حديث صحيح الإسناد
الأحكام الصغرى :537
المهذب : 7/ 3699
موقع الدرر السنية : كلمة ( اللهم بك أقاتل)
القصة الثانية والثلاثون
أهل الجنة
دكتور عثمان قدري مكانسي
سأل موسى عليه السلام ربه : ما أدنى أهل الجنة ؟
قال سبحانه عز شأنه : هو رجل يجيء ( يخرج من النار حبواً ) بعدما أُدخل أهل الجنةِ الجنة َ، فيُقال له : اُدخلِ الجنة .
فيذهب الرجل يأتيها ، فيخيّل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول :
يا ربّ وجدتها ملأى ، فقد نزل الناس منازلهم ، وأخذوا أخَذاتِهم .
قال العزيز الكريم : أترضى أن يكون لك مثلُ مُلـْكِ مَلـِكٍ من ملوك الدنيا ؟
فيقول : رضيت ؛ يا رب ، ولكنْ أتسخر بي ، أوَ تضحك بي وأنت الملِكُ ؟
يقول الله تعالى : لك ذلك ،ومِثْلهُ ، ومثلُهُ ومثلهُ ومثلُه ُ.
يقول العبد : رضيتُ ؛ يا ربّ ، رضيتُ، ما أكرمك- ربِّ – وما أوسع فضلَك !
يقول تعالى : هذا لك ، وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسُك ، ولذ ّتْ عينُك .
يقول العبد : رضيت ربّ ، فلك الحمد ، ولك الشكرُ ، لستُ أهلاً لذلك ، لكنّك أنت الكريم المتفضّل .
قال موسى عليه الصلاة والسلام : هذا أدنى أهل الجنة! ، فمن أعلاهم منزلةً ؛ يا ربّ ؟
يقول تعالى : أولئك الذين أردْتُ إكرامَهم ، غرستُ كرامتهم بيدي ، فأنْميتُها . وختمْتُ عليها ، فلا يراها أحد غيرُهم ، فلم ترَ عينٌ ، ولم تسمعْ أذنٌ ، ولم يخطُرْ على قلب بشر .
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون ما يقصه عليهم سيدهم وحبيبهم المصطفى مندهشين راغبين أن يتقبل الله أعمالهم ، وأن يرفعهم في علـّيـّين .
قال أحدُهم : يا رسول الله ، اذكر لنا واحدة مما أعده الله تعالى للمؤمنين ؟ .
قال عليه الصلاة والسلام : إن للمؤمن في الجنة لَخيمة ًمن لؤلؤة واحدة مجوّفة ، طولها في
السماء ستون ميلاً ، للمؤمن فيها أهلون ، يطوف عليهم المؤمن فلا
يرى بعضُهم بعضاً .
وتورّدتْ وجوه الصحابة الكرام ، كلهم متشوّق إلى هذه الخيمة الرائعة . ، وسألوا الله تعالى أن يرزقهم برحمته ومنّه وكرمه ما أعدّه لعباده الصالحين .
لمـّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ذلك الشوق أراد ترغيبَهم ، فقال :
إن في الجنة لَشجرةً يسير الراكبُ الجوادَ المضمّرَ السريعَ مئةَ سنةً ما يقطعها .
- دوّى التسبيح والتهليل والتكبير .....
قالوا : يا رسول الله ؛ كيف تكون منازل المقرّبين ؟
قال : إن أهل الجنّة ليتراءَوْن أهل الغرف من فوقهم كما يتراءَون الكوكبَ الدرّيّ الذاهب في أعلى السماء من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم .
قالوا : يا رسول الله ؛ تلك منازل الأنبياء ، لا يبلغها غيرُهم ؟
قال : بلى - والذي نفسي بيده – رجال آمنوا بالله ، وصدّقوا المرسلين .
قالوا : وهل يجتمع أهل الجنة في أماكن محددة وأزمن معلومة يتزاورون فيها ؟
قال : نعم ، إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة ، فتهب ريح الشمال ، فتحثو في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حُسناً وجمالاً ، فيرجعون إلى أهليهم ، فيقولون لهم : لقد ازددتُم حسناً وجمالاً . فيقولون : أنتم والله لقد ازددتم بَعدَنا حسناً وجمالاً .
قالوا : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ، زدنا من حديث الجنة ؟.
قال : أتدرون ما يقول الله تعالى لأهل الجنة ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : إن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة .
فيقولون : لبيك - يا ربنا - وسعديك ، والخير كله في يديك .
فيقول : هل رضيتم ؟
فيقولون : وما لنا لا نرضى – يا رب - ، وقد أعطيتنا مالم تُعط أحداً من خلقك ؟
فيقول : ألا تريدون أفضل من ذلك ؟.
فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟.
فيقول : أُحِلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبداً .
فتنطلق ألسنتهم تلهج بالثناء عليه سبحان ، عزّ شأنه .
فيقول : أتريدون شيئاً أزيدكم؟.
فيقولون : يا عظيم الشأن ، يا واهب العطايا ، ويا صاحب الكرم ، ألم تـُبيّض وجوهنا ؟!
أم تدخلنا الجنة ، وتنجّنا من النار ؟! .
فيعطيهم الله عز وجلّ أعظم عطاء يُعطيهم إياه ... إنه سبحانه يكشف الحجاب ، فيرونه
عِياناً ، لا يُضامون في رؤيته .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : فما أُعطُوا شيئاً أحبّّ إليهم من النظر إلى ربهم .
رياض الصالحين
باب المنثورات والمُلح
القصة الثالثة والثلاثون
موسى والرجل الصالح
دكتور عثمان قدري مكانسي
حدّث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
قام موسى النبي صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل يعلمهم ويرشدهم – وهذا دأب الدعاة في كل زمان ومكان ، فمهمتهم الأخذ بيد الناس إلى طريق الهدى ومنهج النور –
فسُئل : أيّ الناس أعلم يا نبي الله ؟.
وكان عليه السلام يظن أنه أعلم الناس في عصره لأنه كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل
فقال : أنا أعلم الناس .
فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه سبحانه وكان عليه أن يقول : الله أعلم ، فيكل العلم والمعرفة إلى الله عزّ وجلّ .
فأوحى إليه سبحانه : أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك ....
قال موسى : ربّ ؛ وكيف لي به ؟ وما السبيل إلى لقائه ؟ فقد أحب أن يلتقيه ويتعلم منه .
قيل له : احمل سمكة في سلة ، ثم انطلق بحثاً عن هذا الرجل ، واتجهْ إلى المكان المحدد – بين البحرين – ( عند مصب النهر في البحر ) هناك ستقابله .
فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون – الذي ورثه في النبوّة والدعوة في بني إسرائيل – ويوشع الذي فتح القدس – حتى إذا وصلا المكان وفيه صخرة كبيرة مستوية أحسّا بالتعب ، فوضعا رأسيهما ، وغرقا في نوم عميق . وانسلّ الحوت من المكتل( السلة ) ، واتخذ سبيله في البحر سرباً ( مسلكاً ومنفذاً ) .. حدث هذا الأمر المعجزة وهما نائمان ، فكان أمراً عجباً إذ كانت السمكة مشوية .
انطلقا بعد ذلك سائريْن بقية ليلتهما ويومهما .
فلما أصبح الصباح ، وأسفر وجه النهار قال موسى عليه السلام لفتاه : " آتنا غداءَنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَباً " ( تعباً ) . ولم يجد موسى عليه السلام مسّاً من النّصَب حتى جاوزا المكان الذي أمر به وأراد الله تعالى أن يلتقي فيه موسى بالرجل الصالح العالم .
لما طلب موسى عليه السلام الغداء من فتاه – وكان فتاه قد نظر في السلة فلم يجد الحوت – فقال له : " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ! فإني نسيتُ الحوت " .
قال له موسى عليه السلام : فذلك ما كنا نبغيه إذ إننا سنلتقي الرجل الذي وُعدنا به في المكان الذي نفقد فيه الحوت . هذا الرجل أعلم مني ، وكنت أود أن أتعلم منه ما يفيدني في الدعوة إلى الله تعالى . هلمّ - يا ولدي - إلى الصخرة فثمّ نراه ....
" فارتدّا على آثارهما قصصاً " وعادا أدراجهما إلى ذلك المكان . فلما وصلا إليها رأيا رجلاً مسجّى ( مغطّى ) بثوبه ، فسلم موسى عليه ، فقال الرجل – واسمه الخَضِرُ - : وأنّى بأرضك السلام؟!
قال له : أنا موسى بن عمران .
قال الخضر : موسى بني إسرائيل؟
قال موسى : نعم . وقص عليه سبب شد الرحال إليه ، وطلب إليه أن يسمح له أن يكون تلميذاً يتعلم منه مما علمه الله تعالى . " هل أتبعك على أن تعلمَن ِ مما عُلـّمْتَ رُشدا ؟ " .
قال الخَضِر : إنك لن تستطيع معي صبراً – يا موسى – إني على علم من علم الله علـّمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علـّمك الله إياه لا أعلمه ، فكل منا على علم اختصه الله به ، لا يعلمه الثاني .إن عِلْمَ الخضر ( لدنّيّ ) وعلم موسى ( شرعي ) . والفرق بينهما بيّن .
قال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابراً ، ولا أعصي لك أمراً " وصبْر التلميذ على معلمه مطلب مهم ، ينبغي أن يتحلّى به المريد كي يستفيد من علم معلمه .
عاد يوشع الفتى إلى قومه ، وانطلق النبيان يمشيان على سـِيف البحر ، ليس لهما سفينة ... فمرّت بهما سفينة ، فكلّماهم أن يحملوهما ، فعرف أهل السفينة الخضر ، فحملوهما بغير نَوْلٍ ( أجرة ) ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر من الماء نقرة أو نقرتين وهكذا يشرب العصفور في البحر – ولعل السفينة كانت في بحيرة طبريا يصب فيها نهر الأردن – وقد تكون بحيرة حلوة غيرها جفـّت على مرّ الأيام ، والله أعلم . ولا ننسَ أن البحر يطلق على النهر والبحيرة كذلك ، دليله قوله تعالى في سورة الفرقان الآية الثالثة والخمسين :" وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ..." . فقال الخضر منبهاً موسى عليهما السلام إلى سعة علم الله تعالى : يا موسى ؛ ما علمي وعلمك وعلم المخلوقات إلى علم الله إلا كما شربه العصفور من ماء البحر !!
ثم عمد الخضر في غفلة من أصحاب السفينة إلى لوح من ألواحها ، فنزعه ، ثم نزلا من السفينة قبل أن يشعر أصحابها بما فعل الخضر بها .
قال موسى عليه السلام مستنكراً فعلته : قومٌ حملونا بغير نَول عمدتَ إلى سفينتهم ، فخرقتها لتغرق أهلها ؟! لقد فعلت مفسدة عجيبة لا يستحقونها منك !
قال الخضر عليه السلام : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ! " فأنا أقوم بأعمال ظاهرها مفسدة وحقيقتها عونٌ ، وأنت على جهل بها ، لا تعرف حقيقتها .
قال موسى عليه السلام : قد نسيت فلا تؤاخذني يا أخي الحبيب ،
فقبل الخضر عليه السلام عذره ، وانطلقا في طريقهما ، فإذا غلام يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه ، فاقتلع رأسه بيده .
قال موسى عليه السلام محتجاً مرة ثانية : أتقتل الفتى دون جريرة ارتكبها؟! وتزهق نفساً زكية دون سبب ؟ ما هذا المنكر الغريب الذي أتيتَه ؟!
قال الخضر عليه السلام مرة ثانية بأسلوب أشد عتباً من الأولى إذ زاد في قوله ( لك ) " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟! "
فشعر موسى عليه السلام أنه – للمرة الثانية – لم يلتزم بوعد قطعه على نفسه أن يسكت – فقال معتذراً " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد بلغتَ من لدنّي عذراً " .
قبل الخضر عليه السلام عذره كرة أخرى، فانطلقا حتى وصلا قرية كبيرة ، سألا أهلها طعاماً ، فكانوا بخلاء ، لم يستجيبوا لهما ، ولم يستضيفوهما . فوجدا جدارً مائلاً يكاد أن ينهدم ، فأومأ الخضر عليه السلام بيده إليه ، فعاد بإذن الله معتدلاً مستوياً !
قال موسى بعدما رأى بخل أهل القرية وإقامة الجدار وأنهما يستحقان أجرة لذلك العمل الإيجابي : " لو شئتَ لاتخذْتَ عليه أجراً " .وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يتدخّل فيها موسى عليه السلام بما لا يَعنيه ، وقد كان وعد أن يسكت منتظراً الخضر عليه السلام أن يشرح له ، ويوضح ما التبس على موسى مما يرى حين يجد الوقت ملائماً .
هنا آن للخضر أن يفارقه ، فقد صبر عليه ثلاث مرات ، ولا حرج أن يعتذر إليه وينصرف عنه ، فصرّح له قائلاً " هذا فراق بيني وبينك " ولكنه قبل أن يفارق موسى قص عليه ما استغلق عن الفهم . وهذا ما نجده في سورة الكهف :
أما السفينة فقد خرقها الخضر لأن ملكاً ظالماًً على الطرف الآخر من البحر كان يغتصب السفن الصالحة ، فيضمها إليه ، وكان أصحاب السفينة فقراء ليس لهم عمل سوى هذه السفينة ، يصطادون بها ، وينقلون بها البضائع والركاب ، فلما رأى الملك العيب الذي أحدثه الخضر في السفينة زهد فيها ، وتركها لأصحابها .
وأما الفتى فسوف يكون – في علم الله حين يصير شابّاً – فاسقاً يُتعب والديه المؤمنَين ويرهقهما ، فأراد الله سبحانه أن يعوّضهما خيراً منه زكاة ، وأقرب رحماً ، فرزقهما فتاة صالحة كانت بعدُ زوجة لنبي من أنبياء الله سبحانه .
وأما الجدار الذي أقامه الخضر فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما خبّأه والدهما الصالح لهما حتى يكبرا ، فأراد سبحانه الرؤوف بعباده أن يبلغا أشدّهما فيستخرجا هذا الكنز – لا يستولي عليه غاصب وهما صغيران – وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بهما إكراماً لوالدهما ، فالله يحفظ الأبناء بصلاح الآباء .
وقد أخبرنا الخضر عليه السلام أنه إنما عمل ما عمل بإذن الله ، فهو مأمور .
قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين المتحلقين حوله يستمعون القصة معتبرين بمواعظها الجليلة : " يرحم الله موسى ؛ لَودِدْنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما ما استغلق " .
ملاحظة : في موقع" أدباء الشام ، قسم حديث الروح" تأملات تربوية في " قصة موسى والخضر عليهما السلام " تحمل معاني تربوية مفيدة ، يمكن الرجوع إليها .
صحيح البخاري ج1 كتاب العلم
باب/ ما يُستحب للعالم إذا سُئل أي الناس أعلم؟ فيَكـِل العلم إلى خالقه
القصة الرابعة والثلاثون
يوم لا ينفع مال ولا بنون
دكتور عثمان قدري مكانسي
صلى الأب إماماً بابنه ، فلما سلما ظل الأب جالساً يسبّح الله تعالى ، ويحمده ويكبّره ، ففعل ابنه مثله .... ولمّا شرع الوالد يدعو أصاخ الولد إليه يستمع ويؤمّن على دعائه .
كان يسأل ربه – هذه المرّة - أن يشفـّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيه وأمه وزوجته وبنيه ... فلما انتهى الوالد من الدعاء التفت ابنه إليه ،
وقال : ما المقصود بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ؟.
الوالد : أن يكون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوسيلة إلى رضا الله تعالى عن أمته .
الولد : وهل يشفع فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ؟
الأب : نعم – يا بني – هو بابنا إلى الله تعالى ، وقائدنا إلى الهدى ، لقد بذل وقته وراحته وماله في الدعوة إلى ربه ، فهو أحرص علينا منا في الدخول إلى الجنة والنجاة من النار .
الابن : نعم - يا أبتاه – فقد وصفه المولى جل شأنه بالحرص على إسعادنا والرحمة بنا فقال في سورة التوبة : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم
1- عزيز عليه ما عنتّم ،
2- حريص عليكم ،
3- بالمؤمنين رؤوف رحيم "
الأب : وقد وصف لنا الرسول الكريم ألمه وحزنه حين يـَرِد ُالحوضَ ناسٌ من أمته ، فيستبشر بهم ، ويهمّ بسقايتهم بيده الشريفة ، فتدفعهم الملائكةُ بعيداً ،،،،،،
فيقول : هؤلاء أصحابي !!
فتقول الملائكة : إنهم لم يزالوا مرتدّين منذ فارقْتَهم ، لقد نكصوا على أعقابهم ، وسلكوا طريقاً غير طريقك ، فضلّوا ، فلستَ منهم ، وليسوا منك .
فيستشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال عيسى عليه السلام :
" وكنت شهيداً عليهم ما دمتُ فيهم ،
فلما توفـّيتَني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم ،
وأنت على كل شيء شهيد ،
إن تعذبهم فإنهم عبادك ،
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
الابن : فهمت يا والدي أن الشفاعة للمسلمين فقط الذين عصوا ربهم .
الوالد : ليس لهؤلاء فقط يا ولدي ، إنما للمسلمين العاصين جميعاً الذين وجبت لهم النار ، فينقذهم الله منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم . كما أن شفاعته لأهل الجنة في الجنة في رفع درجاتهم ، وإعلاء منزلتهم ، والإسراع بهم إلى الجنة .
الابن : قرأت يا أبي أن إبراهيم عليه السلام يشفع في والده الكافر ، فقد وعده أن يشفع له ، ويستغفر له ، لقد قرأتُ قوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم
" قال سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفيّاً "
وقد قلتَ قبل قليل : إن الشفاعة للمسلمين، فكيف يشفع إبراهيم عليه السلام في أبيه ؟!
قال الأب : صحيح ما قلته يا ولدي ، لكن الله تعالى يأبى أن يقبل الشفاعة في كافر أو منافق ، فقد أعلن في مُحكم آياته حين استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكبير المنافقين " ابن سلول " أنه سبحانه لن يغفر لهم " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ،
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم "
قال الابن : وهل هناك استثناء لإبراهيم عليه السلام ؟ فقد وعد أباه أن يستغفر له ؟
قال الأب : لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة مايكون في أمر والد إبراهيم عليه السلام حيث " يَلقى إبراهيم أباه آزرَ يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترةٌ وغَبَرة ،
فيقول إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟
فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك .
فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدْتَني أن لا تخزيَني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من
أبي المبعدِ من رحمتك وعفوك ؟!
فيقول الله تعالى : إني حرّمتُ الجنة على الكافرين .
وهنا يسكت إبراهيم عليه السلام ، فلقد قضى الله عز وجلّ قضاءَه ، ولا رادّ لقضائه ...
ثم يُقال : يا إبراهيم ؟ ماتحت رجليك ؟ فينظر إبراهيم تحت رجليه فإذا هو أبوه قد انقلب ضبُعاً قذراً ملطّخاً ..... فيُخذ بقوائمه ، فيُلقى في النار .
نسأل الله يا بني أن يتقبلنا في عباده الصالحين ، وأن يمن علينا بالإيمان ، وأن نلقاه وهو راض عنا إنه سميع الدعاء .
صحيح البخاري ج4
كتاب بدء الخلق
باب : قول الله : واتخذ الله إبراهيم خليلاً
القصة الخامسةُ والثلاثون
لا تُؤذوا رسُل الله
دكتور عثمان قدري مكانسي
جاء رجل من أهل البادية حديث عهد بالمدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يَقسم ذهباً وفضة .
قال : يا محمد ؛ والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ماعَدَلْتَ !!!
قال نبي صلى الله عليه وسلم متألماً من افتراء الرجل ووقاحته وغلظته :
ويلك ؛! فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي ؟!!!
وفي رواية البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قِسـَماً إذ جاءه ذو الحويصة التميمي ، فقال :
اعدل يا رسول الله ..
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ويلك ؛ ومن ذا يعدل إذا لم أعدل ؟!!
فقال عمر رضي الله عنه : إئذنْ لي فأضربَ عنقه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة .
( هؤلاء المتنطعون في كل زمان ومكان ذوو القلوب الفارغة والعقول الضعيفة الذي يظنون أنهم على حق ، وليسوا على شيء ) ..
قال أبو سعيد : فنزلت فيهم " 1- ومنهم مَن يلمزك في الصدقات ،
2- فإن أعطوا منها رضُوا ،
3- وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون "
أما ابن مسعود رضي الله عنه فقال :
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حُنين سمعت رجلاً يقول :
هذه قسمة ما أريد بها وجهُ الله ....!
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال :
رحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر "
قال الصحابة : يا رسول الله ؛ فكيف آذى اليهودُ نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
إن موسى كان رجلاً حَيِيّاً سـتـّيراً ، لا يُرى من جـِلده شيء استحياءً منه . فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستـّرَ إلا من عيب بجلده ، إما بَرَص وإما أُدْرةٌ 0( انتفاخ في الخصية لتسرب سائل فيها ) ، وإما آفة ...
وإن الله أراد أن يبرّئه مما قالوا فيه ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه ، وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجرُ ( يا حجرُ ) ثوبي حجرُ ...
حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عُرياناً أحسنَ ما خلق اللهُ .، وأبرأه مما يقولون . وقام الحجر ( توقف) ، فأخذ ثوبه ولبسه .
وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إن بالحجر لَنـَدْباً ( أثراً ) من أثر ضربه ، ثلاثاً أو أربعاً او خمساً ، فذلك قوله سبحانه وتعالى :
" يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوا موسى ، فبرّأه الله مما قالوا ، وكان عند الله وجيهاً ."
صحيح البخاري / ج4
كتاب بدء الخلق : باب حدثني إسحاق
القصة السادسة والثلاثون
الكذبات الثلاث
هاهم أولاء الصحابة الكرام في مجلسهم المعهود بعد الصلاة أمام معلمهم وهاديهم وسيدهم محمد عليه الصلاة والسلام يسمعون منه ، ويعون بقلوب عامرة بالإيمان ، مفعمة بالتقدير والحب ، يسألونه :
يا رسول؛ الله حدثتَنا أن إبراهيم عليه السلام حين يأتيه المؤمنون يوم الحشر يستشفعونه إلى الله تعالى ليدخلهم الجنة يذكر كذباته ويقول :
نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى . فماهي هذه الكِذبات ؟ وهل يكذب نبي؟! إننا نقف محتارين حين يخطر ببالنا أن نبياً يكذب !!.
نظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المعلم الحاني ، وابتسم ، فأشرقت نفوسهم بابتسامته ، ولمعت عيناه ببريق شع ضوءُه فدخل أفئدتهم ، فأنارها ، وأقبل عليهم ، فأقبلوا عليه .
فقال : كذب إبراهيم ثلاث كَذبات ( في عرف الأنبياء ) إذ كل حركة وسكنة محسوبة عليهم ، وعين الخلق – محبّهم ومبغضهم – تتابعهم ، يحصون ما يفعلون وما يقولون . فالمؤمنون يفعلون ذلك أسوة واتّباعاً ، والشانئون يفعلونها إرصاداً وإحصاء .
أما الكذبة الأولى فقد كان قومه أهل تنجيم ، فرأى نجماً قد طلع ، فنظر إليه متأملاً عظمة الخالق وجماله فيه ، وجاءه قومه يسألونه أن يخرج معهم للاحتفال بولادة هذا النجم - وهذا من طقوسهم – فبيّت إبراهيم في نفسه أمراً لا يستطيع عمله إلا إذا خلا الجو ، وفرغ المكان من الناس ، فعصب رأسه ، وقال : إني مطعون ( مصاب بالطاعون) فتولوا عنه مدبرين خوفاً أن يعديهم .
قال الصحابة الكرام : وما الأمر الذي عزم إبراهيم عليه السلام أن يفعله حين يخلو بنفسه ؟.
قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
إنه عزم أن يكسر الأصنام التي يعبدونها لينتبهوا من غفلتهم ، ويعلموا أن هذه الآلهة المزعومة – لو كانت آلهة بحق – دافعت عن نفسها .
قالوا : وهل فعل ما قرره ؟!
قال صلى الله عليه وسلم : لما خرج الكهنة ومعهم دهماء الناس مال إبراهيم إلى الأصنام دون أن يشعر الناس به ، فدخل المعبد ، فوجد أمام الأصنام طعاماً ،
فقال لها هازئاً بها : هذا الطعام أمامك ، فيه ما لذ وطاب ، كليه !! مدي أيديك إليه !! .
ولكنْ لاحياة لمن تنادي ....
قال لها مرة أخرى : تذوقيه وتلذذي به ؛ لِمَ لا تفعلين ؟! ..إن كهنتك الأفاقين يُلبّسون على الجهلة ذوي العقول الفارغة ، فيوحون إليهم أنك تأكلين وتكلمينهم ، وتوحين إليهم ، فهم الواسطة بينك وبين الغوغاء !! لماذا لا تنطقين ؟ لأحطمنّك إرْباً إرْباً ، فدافعي عن نفسك ، حافظي على ألوهيتك ! .. ولكنْ أنّى للحجر والخشب أن يتكلما أو يدفعا عن نفسيهما السوء؟! إنها آلهة مزعومة ، لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ...
كانت نفسه في أوج كرهه إياها ، فطفق يضربها بقوة ، يكسرها ، يفتتها ، يبعثرها .. حتى جعلها حطاماً ... وترك كبيرها وسط الدمار علامة الضعف والذل والهوان ، وعلّق عليه الفأس احتقاراً ، عل عبّاده يفكرون ، ويعلمون أنهم في ضلالهم يعمهون ... إن التفكير السليم يوصل إلى القرار السليم .
وجاءه قومه فدخلوا معبدهم ، ويا لَهولِ ما رأوا ! ... هذه الآلهة صارت شَذَر مذَر ... من يجرؤ على هذه الفعلة الشنيعة ؟!!
قال بعضهم : هناك فتى يذكر آلهتنا بسوء اسمه إبراهيم ، فلعله الفاعل ! .
وجيء بإبراهيم ، فأوقفوه موقف المتهم ، وسألوه : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ؛ يا إبراهيم ؟!
وكان الناس مجتمعين يسمعون وشهدون .
وهنا تفوّه بالكذبة الثانية : وهي في الحقيقة وخزة لضمائر الناس وهزة لعقولهم ، قال :
بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون !!
لقد غضب هذا الإله الكبير أن تُعبد الآلهة الصغيرة معه ، فانتهز فرصة غيابكم ، فتخلص منها ... اسألوه ، إنه أمامكم ....
إن الفطرة حين تنفضّ عنها ركام الجاهلية ولو برهة يسيرة تنطق صواباً ... لقد كان دفاعه رائعاً حقاً ، منطقياً ، رجّهم رجّاً ، وهزّهم هزّاً .
قالوا : لقد ظلمتم إبراهيم حين اتهمتموه ، هذه آلهتكم أمامكم فاسألوها ، اوَ لستم تعبدونها وتقدّسونها ؟! ففيها حياة إذن !! وضج المكان بالتساؤلات الجادّة والتكهّنات الساخرة .
كان من البدهي – لذوي الأحلام وأصحاب العقول – أن يثوبوا إلى صوابهم ، ويعرفوا أن هذه الأصنام التي صنعوها بأيديهم هم سادتها ، وليست هي سيدتَهم ...
ولكنْ أنّى للعقول العفنة التي ران عليها الكفر ، وطمسها الضلال أن ترى نور الحق وضياء الوحدانيّة ؟! أنّى لمن عاش في حمْأة الغي أن يتلمّس الهداية والإيمان ؟!
لقد كادت كلمات إبراهيم تزلزل الأرض تحت أقدام الكهنة المتعفنين ، وتسلبهم سلطتَهم وزعامتهم إلى الأبد ... لا لا .. لا ينبغي لصاحب الكلمة الحق أن يصدع بها ، إنما يجب كمّ فمه ، فلا يتكلم ، ويجب إرهاب الحاضرين كي يجبُنوا فلا يتبعوه ...
قالوا وقد أعمى الضلال قلوبه ، ونكسهم ، فغاصوا في أوحال الشرك والكفر :
"لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون" ، فقلتَ قولتَك تحرّك بها عوام الناس وتؤلبهم علينا ، وتسحب البساط من تحت أرجلنا !!..
استمر صوت إبراهيم مدوّياً ، يتحدّى أن يشلّ الداعية أو أن يخيفه :" أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم ؟!.. "
ثم أعلن أن العبادة الحقة لله وحده ، فقال : " أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله .. أفلا تعقلون ؟!."
أما الكذبة الثالثة فقد كان إبراهيم عليه السلام – بعد أن نجّاه الله من النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فانقلبت عليه برداً وسلاماً- ذات يوم وزوجه سارة قد ابتعدا عن أرض الكفر والفساد ، ودخلا أرضاً يحكمها جبار من الجبابرة ، فأرسل إليه مخبروه أنّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء جمالاً وسمتاً ، فأرسل إليه ، فسأله عنها والشرر يتطاير من عينيه ، يريدها لنفسه . فإن قال إبراهيم : إنها زوجتـُه قتله وأخذها .فقال : إنها أخته ... فقال الجبار : أريدها إذاً .
فانطلق إبراهيم إلى سارة ، فقال لها : ليس على وجه هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك ، فأخبرتُه أنك أختي ، وأضمرتُ الأُخُوّة في الله ، فلا تُكذّبيني .
فأرسل الجبار إليها ، فلما مثلت بين يديه مدّ يده إليها ... فتوقفت يده كأنها قطعة خشب ، لا يستطيع لها حراكاً ... قال لها : ادعي الله لي ، ولا أضرك ، فدعت الله تعالى ، فأُطلقت يدُه بإذن الله تعالى ... لكنّ شيطانه وسوس له أن يحاول كرّة أخرى ، ففعل ، فأصابه أشدُّ ما أصابه في المرّة الأولى ، فناشدها الله أن تدعو له ، ولن يعود إليها . فدَعَتْ ، فأُطلقتْ يدُه ..
فدعا الجبار بعض خدمه ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان – وتناسى أنه هو الشيطان – أعيدوها ، وهبوا لها هاجر خادمة لها .
فجاءت سارة إلى إبراهيم وهو يصلي ، فأومأ بيده إليها يسألها عن حالها – لم يستطع الانتظار ، فالأمر جد خطير – فقالت مقالة المؤمن الواثق بربه : ردّ الله كيد الكافر .
صحيح البخاري ج 3
كتاب بدء الخلق : باب قول الله تعالى :
واتخذ الله إبراهيم خليلاً
القصة السابعة والثلاثون
أهل الفردوس الأعلى
دكتور عثمان قدري مكانسي
صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العصر بأصحابه ، ثم سبّحوا ، وحمدوا الله تعالى ، وكبّروا ، ثم سألوا الله تعالى العافية في الدنيا ، وسألوه الجنة في الآخرة ، ولم يقم أحد منهم ، فقد رأوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسامة تُشيع في نفوسهم الاطمئنان ، وكأنه سمع منهم دعاءً سره ، فأراد أن يحدثهم ليسرّهم كذلك ، فابتسموا له صلى الله عليه وسلم ، ورنت إليه عيونهم وقلوبهم ينتظرون ما يقول .
قال : أراكم تسألون الله تعالى الجنة ، أفتعلمون ما فيها ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : قال الله تعالى : أعددت لعبادي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر
. اقرؤوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أُخفيَ لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون " .
قالوا : فمن أول الداخلين إليها ؟.
قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر .
قالوا : ثمّ مَنْ ؛ يا رسول الله ؟ .
قال : والذين على إثرهم كأشد كوكبٍ إضاءةً .
قالوا : فما صفات هؤلاء وهؤلاء ؟.
قال : قلوبهم تملؤها المحبة ، وكأنهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لا يبصقون فيه ، ولا يتمخّطون ، ولا يتغوّطون ، آنيتُهم فيها الذهب ، أمشاطُهم من الذهب والفضّة ، يتبخرون بعود الصندل ، وعرَقـُهم المسك الزكيّ الرائحة ، ولكل منهم زوجتان يُرى مُخّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن ، يسبحون الله بُكرة وعشيّاً .
قالوا : أهم كـُثـُرٌ ؛ يا رسول الله ؟.
قال : سبع مئة ألف . لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم. فأبواب الجنة عريضة تضمّهم جميعاً ،
يدخلون بغير حساب .
قال عُكّاشة بن مِحصن : ادع اللهَ ؛ يا رسول الله أن أكون منهم .
قال : أنت منهم . ... فانتعشت أوصال عُكّاشة ، وحمد الله وكبّر ، فليس من بشرى أفضل من هذه
البشرى .
قالوا : فزدنا توضيحاً يا رسول الله .
قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلالها مئة عام لا يقطعها ! ، واقرأوا إن شئتم "
وظلٍّ ممدود " ولَقابُ قوسِ أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربتْ ، وإن
موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها .
قالوا : أمنازل المؤمنين فيها متساوية ؟.
قال : لا ، إن أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرف من فوقهم كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدريّ
العالي في كبد السماء شرقاً وغرباً ، إن مقام أهل الفردوس الأعلى عظيم عظيم .
قالوا : لعل تلك المنازل تخص الأنبياء فقط ؟.
قال : لا ، والذي نفسي بيده ! إنها منازل رجال آمنوا بالله ، وصدّقوا المرسلين .
رفع المسلمون أيديَهم إلى السماء ، وقالت قلوبهم قبل ألسنتهم :
اللهم ؛ يا ربنا : أمنا بك إيماناً يزداد بك يقيناً ، وصدّقنا رسولك الكريم ، فاكتبنا في أهل
الفردوس الأعلى ، وارزقنا الغـُرف في علـّيـّيـن .
آمين ، يا رب العالمين .
صحيح البخاري ج/ 4
كتاب بدء الخلق ، / باب ما جاء في صفة الجنة
القصة الثامنة والثلاثون
موسى عليه السلام
دكتور عثمان قدري مكانسي
1) اُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ( ليقبض روحه) ، فلمـّا جاءه صكّه موسى
( دفعه بقوة ولطمه) .
لم يقبض ملك الموت روح موسى عليه السلام لمكانته ، فالأنبياء يُخيّرون في موتهم . رجع ملك الموت إلى ربه سبحانه يقول له – والله أعلم بما جرى - : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت .
قال تعالى : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بما غطّت يدُه بكل شعرة سنة ( تزيد في عمره )
قال موسى حين سمع ملك الموت يخبره بما قاله الله تعالى : أيْ ياربّ ؛ ثم ماذا؟
قال تعالى : ثم الموت . ..
كل نفس ذائقة الموت ، ولا بد مما ليس منه بد ، ولا يبقى إلا وجه الله الكريم سبحانه .
قال موسى : فالآن أريد الموت ، فما فائدة تأخيره إن كان حتماً لا زماً ؟ ولكنْ يارب أسألك أن تُدنيني من الأرض المقدسة رمية حجر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت ثـَمّ ( هناك في الأرض المقدسة ) لأريتـُكم قبره إلى جانب الطريق ، تحت الكثيب الأحمر ".
2) تخاصم رجل من المسلمين ورجل من اليهود فاستبّا ( سب كل منهما صاحبه ).
فأقسم المسلم قائلاً : والذي اصطفى محمداً على العالمين .
وأقسم اليهودي قائلاً : والذي اصطفى موسى على العالمين .
فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهوديّ ، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو المسلم إذ اعتدى عليه ، وأخبره بما كان منه ومن المسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تُخيّروني على موسى أو قال : لا تفضّلوا بين
أنبياء الله ، فإنه يُنفخ في الصور ، فيُصعق من في
السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم يُنفخ فيه
أُخرى ، فأكون أول من بعث ، فإذا موسى آخذ
بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور
، أم بُعث قبلي "
3) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
احتجّ آدم وموسى ،
فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة .
قال له آدم : أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قد قُـُدّر عليّ قبل أن أُخلق؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سرد ما قاله النبييان الكريمان :
فحجّ آدم موسى مرتين . ( كان جوابه مفحماً )
تشوق الصحابة الكرام لمعرفة هذين الأمرين ، فاشرأبّت أعناقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرفون الجواب الشافي
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
المرة الأولى : أن آدم وصف موسى وصفاً رائعاً ( اصطفاه الله برسالته وكلمه ) فما ينبغي له إلا كلام الأنبياء .
المرة الثانية : نبهه إلى أن الإنسان يُلام على شيء فعله بملء إرادته ، أما خطيئة آدم فقد قدّرها الله عليه قبل أن يُخلق ، فلا ذنب له في ذلك .
مشيناها خُطاً كُتبتْ علينا ومن كُتبت عليه خطاً مشاها
صحيح البخاري ج 4
كتاب بدء الخلق –باب وفاة موسى
وباب قوله تعالى : " وإن يونس لمن المرسلين "